يملأ المطِّبل في العادة فمه بكلمات في غاية الجمال، فيجعل الذي عناه بالمدح منتشياً ومنفرج الأساير، وهنا تبرز صفة الضعف البشري، وخصائص الشخصيات غير الواثقة من نفسها، ذلك لأن الإطراء والثناء المبالغ فيهما يجعلان من لا يثق في نفسه مزهواً وسابحاً في خيالات لا صلة لها بالواقع ولا الحقيقة، فيتصرف تصرفاً بغير وعي ولا عقل، مما يظهره أمام النَّاس بمظهرٍ يدعو للسخرية والاستهزاء. والمطبلون في زماننا هذا، أصبحوا أكثر من عدد النجوم في ليلة ظلماء عندما يختفي في سمائها القمر، إذ لا تكثر الخفافيش إلا في الظلام، ولا تطغى دعوات الضلال إلا عندما يلجأ أهل الحق إلى الاعتصام ببيوتهم، والكف عن إبداء النصيحة، خوفاً من البطش والتنكيل. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في معنى الحديث «أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك»، فكم من فتن كقطع الليل المظلم، اختلط في ساحتها الحابل بالنابل، وتشابه على خلق الله مختلف أنواع البقر، فأصبح الغموض هو سيد الموقف، بحيث لا يتم التعرُّف على من يدعو للحق، وذاك الذي يرفع عقيرته داعياً للباطل مستخدماً كلمات الحق، وهو لا يستهدف بها إلا خلط الكيمان، ومزج الألوان، والإطاحة بركائز الذين يتحرون المصداقية، وينشدون الاستقامة لمن يتهددهم الإعوجاج. والتطبيل، بحكم أنه ذو صلة وثيقة بمن لديهم الرغبة في تحقيق المصالح، واقتناص الفرص لنيل المكاسب، يتبع أهلوه، وسائل عديدة وأساليب من شأنها أن تجعل أغراضهم تجد طريقها وأهواءهم تسير مع اتجاه الرياح للذين يملكون المفاتيح ويهيئون الجو بحكم أنهم هم الذين يتخذون القرار . كما أن المطبِّل حسب طبيعته، التي لها القدرة في التشكُّل، كما تتشكل الحرباء، يمتاز بمهارة العزف وصناعة الموسيقا التي تجعل من يعنيه يرقص طرباً، حتى وإن كانت المناسبة ترحاً، وليست فرحاً بأي مقياس من المقاييس. وأعجب جداً، لأناس، كان المعروف عنهم في عهدٍ قريب بأنهم في معسكر الضد للإسلاميين، غير أنهم غيروا جلودهم بين غمضة عين وانتباهتها، فأصبحوا أكثر قرباً من قيادات، ليس بسلوك إسلامي ولا بفكر متأصل، لكن بالقدرة على الإطراء والثناء واستخدام كلمات، يستحي عن التفوُّه بها من اتصفوا بالصدق وعمق الفكر وقوة الولاء. ولقد سمعت شخصاً مطبِّلاً، يقول شعراً بحق مسؤولٍ، بطريقة بارعة، تفوق الذي كان قد قاله المتنبي في حق كافور الإخشيدي، وعندما لم يستجب له، هجاه هجاءً مراً لم يشهد عالم الشعر مثيلاً له على مر تاريخ الشعر والشعراء. والمطبلون مدحهم خطير، وهجاؤهم يفيض بالنابئ من الألفاظ، والمقذع من الجمل والعبارات . وأحسب أن صفة التطبيل صفة من صفات المنافقين والوجوه المتعددة حسب الظروف والأحوال والمناسبات.