غمرني حزنٌ عميق وأنا أشاهد من تلفزيون السودان فيلماً قديماً يوثق سيرة الشهيدين يوسف سيد وإسماعيل سيد وهما يتبختران بين جنودهما وإخوانهما المجاهدين ويحرضان على القتال بشِعرٍ يهزُّ الوجدان ويتطاولان به نحو السماء.. فقد كنا نحتاج إليهما اليوم وهجليج تسقط في أيدي الأوباش... هجليج (الشمالية) بعد أن كان الشهيدان يقاتلان في أحراش الإستوائية!! يوسف هجر الدراسة بجامعة الخرطوم ليلتحق بالكلية الحربية ويتقدم أقرانه جميعاً ويُحرز المركز الأول ويكرَّم في يوم التخريج أما شقيقه إسماعيل فقد ترك مقاعد الدرس بكلية الطب في جامعة الخرطوم حيث كان يدرس في السنة الرابعة لينال شهادة أخرى عُلوية أعزّ وأكرم من شهادة الدنيا في تلك الكلية العظيمة في تلك الجامعة المهيبة التي تتوق إليها كل أفئدة الشعب السوداني. ذكّرني الشهيدان العزيزان بقصة الشهيد مصطفى ميرغني مزمل طالب الهندسة فقد حكى لي والدُه أنه كان معه في السيارة وعندما توسطا منطقة الرياض في قلب الخرطوم قال مخاطباً ابنه: أريد منك عندما تتخرج أن تبني لي عمارة كهذه.. قال الوالد ميرغني إن ابنه نظر إليه بابتسامة عريضة ولم يتحدَّث وبعد ذلك بعدة أشهر استُشهد مصطفى في مناطق العمليات فقلت للوالد حين رأيت دموعه تنهمر بغزارة: لقد والله بنى لك قصراً في الجنة أعظم من عمارات الأرض جميعاً. لكل شهيد قصة بل قصص تحكي عن أولئك الأخيار الذين انتُقوا بعناية عبّرت عنها الآية الكريمة: «ويتخذ منكم شهداء».. ملاحم لو حدثت في أمريكا أو أوروبا لوثقتها هوليود بما تستحق لكن تواضعنا يجعلنا نحقِّر ما قدَّمه شبابُنا رغم أنه لم يتكرر في التاريخ إلا لماماً. أقول ذلك بالرغم من أن التوثيق كان معلوماً من قديمٍ في ثقافتنا حتى في أيام الجاهلية التي كانت توثق لمنتدى (سوق عكاظ) وتعلق القصائد من عيون الشعر في بيت الله الحرام بعد أن تكتبها بماء الذهب. رغم قلة الزاد والإمكانات أفلح فريق (في ساحات الفداء) في توثيق جزء من سيرة أولئك العظماء من شهدائنا ولكن!! ما كتبتُ هذه المقدمة إلا لأشير إلى ما سيأتي بالرغم من أني كتبتُ حوله أكثر من مرة ولكن لا حياة لمن تنادي. لو أتيح لي أن أقدر لقلت إن برنامج (في ساحات الفداء) كان أيام الجهاد أهم آليات ووسائل التعبئة والاستنفار حيث كان حتى الإخوة العرب خارج السودان يشاهدونه ويتفاعلون معه ويتبرعون للجهاد بالمال الوفير وقد أقمنا في التلفزيون حملات نفير جاءنا خيرُها من أثرياء عرب ولا أظنّ الناس نسُوا كيف حكى الشاعر صلاح أحمد إبراهيم أنه حين شاهد من تلفزيون السودان حلقة الشهيد وداعة الله إبراهيم في باريس حيث كان يقيم ظل يبكي ويبكي ويبكي و(يتنخج) حتى الصباح فما أعظم ذلك البرنامج وما أعظم ما حققه من تعبئة!!. في ذلك الزمان كان تلفزيون السودان هو الوحيد ولا يملك الناس أن يشاهدوا غيره بسبب عدم وجود القنوات السودانية التي أُنشئت خلال السنوات الأخيرة كما أن الأطباق الفضائية كانت محدودة الانتشار أما التلفزيونات الولائية فقد كانت تتوحّد مع تلفزيون السودان في نشرة الأخبار الرئيسة وفي برنامج «في ساحات الفداء» وأذكر أننا جمعنا وزراء الشؤون الاجتماعية والثقافية في كل ولايات السودان في مبني التلفزيون واتفقنا على توحيد البرمجة في بعض برامج التلفزيون من منطلَق أن الإعلام أحد أهم مُمسكات الوحدة الوطنية وما لم يحدث التوحيد على الأقل في نشرة الأخبار الرئيسة فقد يمر الشهر والشهران لا يرى معظم شعب السودان أخبار المركز ورئيس الجمهورية مثلاً بما يفصم ويمزق من عُرى الانتماء ويجعل ولايات السودان جزراً معزولة بحيث يضعف شعور الناس بأنهم جزء من وطن عاصمته الخرطوم ورئيسه هو البشير الذي قد لا يرونه أو يسمعون به إلا بعد فترات متباعدة أو خلال زياراته لتلك الولايات. لقد ضعفت التعبئة من خلال برنامج في ساحات الفداء وكادت تختفي إلا من نسبة ضئيلة ممن يشاهدون تلفزيون السودان. لذلك فإنني أكاد أجزم أن حلقة الشهيدين يوسف سيد وإسماعيل سيد لم يشاهدها إلا نسبة قد لا تتجاوز الخمسة في المائة فهل ترانا نلتفت لهذا الأمر الآن بعد طامة احتلال هجليج وهل تُرانا نُغير من لا مبالاتنا ونعيد النظر في كثيرٍ من طرق تفكيرنا؟! العجيب أن معظم القنوات السودانية مملوكة للدولة التي تستطيع أن تنسق هذا الأمر لكن الدولة التي تتغافل عن عظائم الأمور حتى يقع الفاس في الراس والتي تبتعث للتفاوض نيابة عنها من كان ينبغي أن ينزووا في ركن قصي من أركان النسيان لا تُولي مثل هذا الأمر اهتماماً فهو في أدنى سلم أولوياتها. رحم الله يوسف وإسماعيل سيد ورحم الله علي عبد الفتاح وعبيد ختم وعبد المنعم الطاهر ومصطفى ميرغني مزمل والشهداء جميعاً وأنزلهم الفردوس الأعلى، إنه سميع مجيب. إنني لأطلب من لجنة التعبئة والاستنفار برئاسة الأستاذ علي عثمان محمد طه أن تُولي أمر التعبئة من خلال الإعلام اهتماماً أكبر. أما الدولة فما أظنها بعد اليوم تفكر في تفاوض قبل أن تحرِّر الأرض وتُسقط حكومة الحركة الشعبية وما أظنها ستفكر في إحياء اتفاقية الحريات الأربع أو في لقاء يجمع الرئيس بعدو السودان سلفا كير ميارديت.