نحمد الله كثيراً أنْ منَّ علينا بعودة الوعي وتراجع الغفلة الناشئة عن حالة الشلل والموت الدماغي الذي أصاب تفكيرنا ردحاً من الزمن سادت خلاله ثقافة الاستسلام وعلا صوت المنبطحين والمتثاقلين إلى الأرض رغم هدير القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ٭ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). كانت حالة مَرَضية قاتلة تلك التي سيطرت على حياتنا حتى بتنا من فرط الهوان نصدِّق باقان ونستقبله بالأحضان.. في تلك الأيام النحِسات تعالت أصوات التخذيل وملأت الدنيا ضجيجاً وزعيقاً لدرجة أن يقتنع البرلمان (بحكمة) كبير المنبطحين: (نقاتل بيد ونفاوض بالأخرى)!! نفاوض من يحتلون أرضنا ويكيدون لنا ويتربصون!! بلغ بنا الهوان أن يكتب صحافيو الغفلة لباقان الذي غادرنا بعد الانفصال بعبارة (وداعاً للعبودية) و(ارتحنا من وسخ الخرطوم) قبل أن يعود ويُستقبل في مطار الخرطوم استقبال الفاتحين.. بلغ الهوان أن يكتب أحد كتاب الغفلة في تيار عثمان ميرغني مخاطباً باقان (يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت صاحب القصر ولو ما شالتك بيوت الضيافة تشيلك صحفنا وسوف نهيئ لك متكأً ونعطي أصحاب المنبر سكيناً ونُخرجك إليهم حتى تتقطع أقلامُهم غيظاً وتجفّ أحبارُهم عطشاً...)!! سموم ملأت حياتنا نتناً وموتاً زؤاماً لكن الله اللطيف الخبير أظهر لهم باقان وسلفا كير للمرة الألف على حقيقتهما وإذا بجيش المغول الجُدد يقتحم هجليج وأم دوال ويُنزل بأسَه على النساء والأطفال والشيوخ وإذا بجثامين الشهداء تترى على الخرطوم وغيرها من مدن السودان وإذا بالمستشفيات العسكرية تفتح ذراعيها للجرحى كما فُتح مطار الخرطوم لباقان الذي دخلت قواتُه مشارف هجليج قبل أن يستيقظ مودِّعوه في مطار الخرطوم من نومهم الهانئ!! صار باقان الحقد الأسود ولياً حميماً بعد أن طوى الغافلون كل صفحات الغدر التي لطّخت سيرته المترعة بالحقد على السودان وأهله الطيبين وبات كبير أولاد نيفاشا يصفنا بأننا نهدِّد الأمن القومي للسودان بعد أن صار باقان هو حامي حمى الأمن القومي للسودان يحق له أن يرقص على أنغام الكابلي محاطاً بالوزراء وهم يتضاحكون معه ويتجشأون بعد عشائهم الفاخر في قلب الخرطوم!! غفلة لازمتنا منذ أحلنا انتصارات الدبّابين في الميل أربعين وفي توريت إلى هزيمة منكرة في مائدة نيفاشا... تلك اللعنة التي سوّدت تاريخ السودان.. غفلة جعلتنا ننصب أولاد نيفاشا مفاوضين دائمين بعد أن عقمت نساء السودان عن إنجاب العباقرة الأفذاذ من أمثالهم فأسلمنا ملفات السودان وتاريخ السودان ومستقبل السودان لسيد الخطيب وإدريس بعد أن صارا لا يُرِيانا إلا ما يَرَيَان وما يهديانا إلا سبيل الرشاد!! أصاب العمى عيوننا والصمم آذاننا والغفلة قلوبنا وعقولنا فبتنا لا نرى الملك العريان وهو يتبختر أمام ناظرينا إلا متسربلاً بثياب العز وزينة الكون!!.. لم تُقنعهم خيبة نيفاشا ولم تُثنِهم جليطة الاتفاق الإطاري الأسبق (اتفاق نافع) عن الاستمرار في اللعب بحياتنا ولم تُفجع منبطحينا حرياتُهم الأربع التي أقسم بالله إنني لن أعذر طفلاً صغيراً إن هو أقدم على توقيعها كونها تحمل الموت الزؤام بين ذراعيها.. لم تفجعنا ولم تفجأنا فهلّلنا وكبَّرنا وانتفخ خطيبُهم وإدريسُهم كما لو كانا قد فتحا القسطنطينية وأوشكا أن يسوقا البشير إلى جوبا ليحل ضيفاً على سلفا كير وباقان اللذين كانا قد أعدّا العدة ليغرسا أسنانهما السامة في عنقه.. أوشكا أن يسوقا البشير إلى مقصلة سلفا كير وباقان رغم ما وصفا به الرئيس البشير قبل أقل من شهر من تلك الدعوة بمجرم الحرب وحرامي النفط وغير ذلك من الألفاظ ولولا إرادة الله الغلابة لكان الحال رغم هجليج غير الحال، ومن أسفٍ فقد انساق قطيع المؤتمر الوطني وراء الخدعة فهللوا لخوازيق باقان الأربعة واعتبروها فتحاً مبيناً ومرَّروا خطة باقان لاستدراج البشير فما أرحمك يا رب العالمين بالسودان وأهله إنك لم تكل هؤلاء إلى تدبيرهم. أقول رغم كل شيء.. لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم فمن بين براثن المحنة ينبلج نور المنحة فقد أُصيبت مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمحنة حديث الإفك الذي هزّ أركان الدولة فنزل القرآن مطمئناً (لاَ تَحْسَبُوهُ شَرَّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فقد تسببت المحنة في وضع منهاج التعامل مع أمثالها أدباً وسلوكاً سطرته سورة النور ومن بين ذلك الأدب (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فهل نرسم أدباً من محنة هجليج بل من محنة الغفلة التي أنتجت هجليج وأدّت إلى كل مصائبنا منذ نيفاشا وقبلها؟! من أهم مؤشرات عودة الوعي أن تتعالى صيحات تحديد العلاقة مع الحركة الشعبية باعتبارها عدواً إستراتيجياً لا أمل في علاقة جوار آمنة ومسالمة وسلسة مع الجنوب في ظل وجودها في قمة السلطة في جوبا بما يعني أن القضاء على الحركة الشعبية ينبغي أن يكون هدفنا الأول وهذا ما ظللنا ندندن حوله من قديم حين كنا نتحدث عن مشروع السودان الجديد وما ينطوي عليه من أخطار على السودان الشمالي وهُويَّته الحضارية بل ووجوده ولعل ما أدلى به كل من د. الحاج آدم وكمال عبيد يُفصح عن ذلك التحوُّل.