في وقت الأزمات يحتاج المرء أكثر ما يحتاج إلى الاتزان الداخلي وإلى التفكير بهدوء وروية وتأنٍ، وأن يجعل بينه وبين التسرع مسافة شاسعة، وألا يستعجل النتائج مهما كان الظرف حرجاً ودقيقاً ومهما كان الخطر حالّاً ووشيكاً. هذا على مستوى الأشخاص والأفراد، وعلى مستوى الدول والمجتمعات تكون هذه الخصائص مطلوبة بصورة أكثر إلحاحاً وتصبح من ضرورات نجاح الدولة أو المجتمع في اجتياز الأزمة التي يمر بها بسلام وبأقل الخسائر. احتلال دولة جنوب السودان لمنطقة هجليج السودانية لا شك أنه مثّل صدمة كبيرة للشعب السوداني وأصبح هذا الاحتلال الغاشم هو القضية الرئيسة لكل أجهزة الدولة وقضية الرأي العام الأساسية التي ستظل تشغله حتى تنجلي. وهذا الاحتلال هو أزمة حقيقية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ ودلالات، وبالتالي فإن متطلبات اجتياز الأزمات والتغلب عليها وعلى آثارها هي ما تحتاج إليه الدولة السودانية في هذه الأيام العصيبة في تاريخ السودان الحديث. الحكومة السودانية هذه الايام تحتاج إلى قدر كبير جداً من الاتزان الداخلي، وهي حالة ضرورية جداً يجب أن تتوفر للحكومة، الاتزان الداخلي للحكومة يتمثل في عدد من الأمور المتعلقة والمتصلة بإدارة شؤون الدولة وعلى رأسها عملية صنع واتخاذ القرار. ففي تقديري أن توسيع دائرة صنع واتخاذ القرار في ظل هذه الأزمة التي تمر بها البلاد هو أمر ضرره أكبر من نفعه، فالتحدي الماثل أمام البلاد الآن هو تحدٍ أمني بالدرجة الأولى وهو أعلى وأخطر أنواع التحديات التي يمكن أن تجابه أية دولة مهما عظمت قوتها وقدراتها العسكرية. والتحدي الأمني له تداعياته وتأثيراته المختلفة على كيان الدولة بمختلف مكوناتها الأخرى، لذلك فإن مجابهة هذا التحدي لا تكون بوسائل بيروقراطية أو روتينية جارية بل يجب أن تكون بوسائل استثنائية غير تقليدية. وعملية صنع واتخاذ القرار هي أهم الوسائل التي يمكن أن تساعد الدولة ليس فقط على إجتياز الأزمة، بل الخروج منها منتصرة وبمكاسب عديدة وخسائر قليلة.. فعملية صنع القرار في زمن الأزمات تختلف عن تلك التي تتم في الأوقات العادية، ففي هذه الأخيرة تمر هذه العملية بسلاسة وبشكل روتيني عبر قنواتها التقليدية دون أن تكون هناك أية قيود ومتاريس على طريق هذه العملية، ولكن في أوقات الأزمات فإن هناك عدد من العوامل تحيط بهذه العملية إحاطة السوار بالمعصم، ولعل أولها وأهمها علي الإطلاق هو عنصر الوقت، فصانع القرار يدخل في سباق شديد مع الوقت فهو مطلوب منه أن يقوم بعملية تحويل مدخلات صناعة القرار من معلومات وموارد أخرى غيرها إلى بدائل وإلى خيارات تدفع عن الدولة الاضرار والخطر الذي يتهددها وفي نفس الوقت تحافظ على مصالحها العليا وتصونها وذلك في وقت وجيز وضيق جداً حيث إن التطورات المتلاحقة للأزمة تضيق من مساحة الزمن الذي يحتاج إليه صانع القرار لوضع خيارات وبدائل وفقاً لاتجاهات تطور الأحداث، ومن ثم فإن دائرة صنع القرار لا بد أن تضيق وتتقلص من أجل كسب الوقت. وضيق نطاق دائرة صنع القرار يساعد على العملية التي تلي عملية صنع القرار وهي اتخاذ القرار وهي المرحلة الاخطر والأهم، وعملية اتخاذ القرار تعني ببساطة شديدة الاختيار من بين البدائل والخيارات التي تم وضعها في مرحلة صنع القرار، واتخاذ القرار يعتبر قمة الهرم وهو في الأوقات العادية يتم في أضيق نطاق، فما بالك في أوقات الأزمات والطوارئ ! الفكرة التي أود قولها من وراء ذلك هي أن المهدد الأول والتحدي الآن أمام الدولة السودانية هو مهدد وتحدٍ أمني أصبح واضحاً للجميع «نخب وجماهير»، وطالما كان التحدي أمنيًا فإن المنطق يقول أن تكون للأجهزة الامنية المختلفة «جيش، شرطة، أمن» وقوات الدفع الشعبي، أن تكون لهذه الأجهزة اليد العليا في إدارة هذه الأزمة والتعامل معها كلٌّ في نطاق مهامه وتخصصه وأن يبتعد السياسيون قليلاً ويفسحوا مجالاً أوسع لهذه الأجهزة. ذلك أن تعاطي السياسيين مع مثل هذه الأزمات ذات الطابع الأمني يكون في أحيان كثيرة ضارًا وربما أنتج آثاراً مدمرة وهو بمثابة وضع الندى في موضع السيف.. ويمكن لتصريح يطلقه أحدهم لا يلقي له بالاً فيفسد الخطط الأمنية والعسكرية ويطيحها ويكشفها للعدو، فيصيب البلاد في مقتل من حيث لا يدري، وقد تكون نواياه حسنة ولكن ليس بالنوايا الحسنة وحدها تجابه الأزمات. فالجهات الأمنية وحدها القادرة والمتخصصة في التعاطي مع القضايا الأمنية، وهذه الجهات الأساس في عملها هو عدم الجهر بالقول من خططها وتكتيكاتها وأهدافها ووسائلها في حربها مع العدو.. فهي تعرف تماماً متى تجهر بالقول ومتى تلتزم الصمت وكل ذلك تفعله «بفهم» والأصل عندها الكتمان والجهر هو الاستثناء. نحن نحتاج في هذه الأيام أيضاً إلى «منع» كثير من المسؤولين من إطلاق التصريحات هكذا في الهواء الطلق دون حساب فينبغي أن تنطق الدولة بلسان واحد وليس بألسنة عديدة كما هو حادث الآن وأن تفكر بعقل واحد وليس بعقول متفرقة، وأن تبطش بعدوها بيد واحدة، وأن تجعله أعمى لا يرى شيئاً مما تفعله، وأن تجعله أصم لا يسمع همسها بخططها العسكرية وتدابيرها الأمنية وأن تجعله مشوش التفكير لا يستطيع أن يتنبأ بخطوتها التالية وبلا أهدافها ولا بكيفية انتقامها منه ورد عدوانه. إن إطاحة نظام الحركة الشعبية الحاكم في دولة جنوب السودان هو هدف مشروع وضرورة ملحة وخيار لا مناص منه أبداً بعد تجريب الحكومة لكل الوسائل الأخرى السلمية ولا أحد يماري أو يجادل في ذلك إلا مزايد أو مكابر، ولكن كان ينبغي أن يدرج هذا الهدف في خانة «السر» وألا يتم الجهر به هكذا لتسير به ركبان الصحافة المحلية والإقليمية والدولية ويتغنى به حداتها، لأن ذلك سيمنح مبرراً قوياً للجانب الآخر في ابتزاز المجتمع الدولي بهذا الهدف وفي استقطاب التأييد الداخلي، وسيضعف من قوة محجة السودان التي لطالما كانت تشير إلى سعي جوبا إلى تقويض النظام في السودان، ليس هناك موقف أقوى من الموقف الذي يقفه السودان الآن وهو يدافع عن أراضيه ضد الاحتلال والعدوان، وليستمسك السودان بهذا الموقف في العلن ثم يفعل ما يفعل تحت هذا العنوان ولكن دون أن يفصح عما يريد أن يفعله .