ظلت حكومة الجنوب منذ تسلُّمها زمام الأمور بمساعدة كبيرة من المؤتمر الوطني نفسه تزيد من تعنُّتها الذي انتهجته في الفترة الانتقالية وهي شريكة في الحكم، حيث كانت تعارض وتحكم وتطلب الحوار وتسارع بوضع العراقيل التي تحول دون انتهائه إلى نتائج، فعدم الواقعية كان السمة الغالبة لسلوك الحركة واختفاؤها وراء شعارات سلبية أفقدها الثقة في الآخرين، وفي المستقبل برمته وبمعنى أدق تنازلات المؤتمر الوطني الكبيرة لم تُحظَ بتقدير الحركة الشعبية بل دفعتها إلى أبعد من ذلك، فكل ما يأتي من حكومة الشمال من مقترح ترى أنه خليق بأن يُحتقر ويضطهد ويستبعد، فهذا السلوك جعل الوفود تذهب لحوار أجوف لا قيمة له، ولعل ذلك رسّب شعوراً لدى الشمال بأن الحركة غير جادة وفوق ذلك توجهاتها لا تتصل بمصلحة شعب الجنوب وفلسفتها في التعامل مع الشمال هو الكيد وخلق المتاعب، فهي تعي أهمية الشمال لوحده في استقرار حكمها وبناء دولتها ولا سبيل غيره ومع ذلك لا تريد التعاون من أجل حل مشكلاتها الداخلية، والغريب أيضاً أن سلفا كير بعيد بنفسه ولم يفكر إلا في استفزاز الشمال حيث زار إسرائيل قبل أن يتجول في الجنوب، فهو لا يقيس الخطوات بمصالحها بقدر ما يقدم على العمل المستفز للشمال، غير أن العقل يدعو إلى الاستفادة من الجوار إن كان دوره محورياً في نهضة واستقرار دولة أقل ما يقال عنها إنها ناشئة ولم تلتئم بعد وتتنازعها الصراعات القبلية والتخلف. إزاء هذا الصنيع اقتنع السودان أن الجنوب لا يحكم لمصلحة أهله كما أنه لا أمل في العلاقة معه على الأقل في ظل حكم الحركة الشعبية التي تكره الشمال ولم تتعامل معه حتى في نطاق مصالحها. فاليأس الذي تعاظم لدى الشعب السوداني في كسب الحركة ألهب الحماس الدافق في مواجهة تصرفاتها فهي لا تأبه بمصالح الجنوبيين وتوظف إمكاناتهم في تخريب الشمال، فتلك قناعة لا ينالها الشك في الشمال بأكمله فلم يمضِ كثير وقت على مغادرة وفد الحركة بزعامة باقان أموم الذي لقي حفاوةً لا مثيل لها في الخرطوم التي تسعى لتخفيف الصدام مع الجنوب حتى تحركت جحافل الجنوب لتحتل هجليج النفطية بأنانية لم تدر بخلد ألدِّ الأعداء، ولم يعرف لها التاريخ مثالاً، فإن الاستيلاء على ثروات السودان الشمالي بُغية تحطيمه وتدمير أسباب حياته وتعريض أراضيه ومواطنيه للخطر الماحق لن يقابله الشمال أجمع بغير القوة مهما كان رأيه في المؤتمر الوطني، لأن التفريط لا يعني سوى الضياع للوطن ولأهله، فكان الرد موجعاً قبيل استرداد هجليج،، الكل يسأل حتى المواطن البسيط: هل تم دحر جيش سلفا كير أم لا؟ فما لا تعرفه الحركة الشعبية أن السودانيين لن يفرطوا في أرضهم، فكان الغضب الجماعي واستعد السودان أجمع للتضحية، فالنتيجة كانت ذلك الوبال الذي لحق بقوات الغزو. القوات المسلحة السودانية هي الوحيدة التي تعمل وفق مسؤوليتها الوطنية والتي في سبيلها تبذل الدماء رخيصة تساندها القوات النظامية الأخرى بحسها نفسه، ويدعمها المجاهدون الذين استفزّهم التصرُّف والاعتداء ولم يهدأ لهم بال منذ قيام الحركة بخطوتها الأخيرة من أجل إفساد العلاقة نهائياً مع الشمال، فمسرح العمليات بات يستقبل إلى جانب العسكريين المواطنين لحماية الأرض والعرض، فكان الحشد متنوعاً ويعجُّ بالوطنيين على مختلف مواقفهم في جهاز الحكم، فكان أمير المجاهدين الذي يقود المحور الشرقي الدكتور عيسى بشري وزير العلوم والتقانة الحالي، فعيسى دعمه لا غنىً له إزاء عزة وكرامة السودان ولا يسره أبداً أن يكون وزيراً في بلد يحتل أهم بقاعه التي تضم ثرواته ولم يحدِّث نفسه يوماً بالقعود والتخلُّف عن الجهاد.. ترك الوزارة فهو الذي دخل في الناحية الشرقية، فهو مثال للمسؤول والقائد الذي يبذل نفسه ولا يرى له مكاناً سوى مقدمة المدافعين عن الأرض، فلقد سقطت دانة بالقرب منه ولمعرفتي الشخصية بهذا الرجل إن استشهد سيمزق الكفن ولا يرضى بغير النصر، وإلى جواره الوزير الصادق محمد علي الذي ذهب لتحمُّل العبء عن أهل السودان، فهؤلاء لا تغريهم المناصب ولا يفتنهم الجاه والسلطان التحية لهم. فنحن لم نشك يوماً في مقدرة القوات المسلحة في الدفاع عن التراب لكننا ندعو بتوفير الأسباب الكفيلة بتفوقها وقوتها كما أننا نرى ضرورة أن تعمل الحكومة بل رئيس الجمهورية شخصياً على تأهيل المنطقة وتوطين أهلها لأنها تمثل شريان الحياة للسودان، فينبغي إعداد برامج تعين سكان المنطقة على تغيير نمط حياتها بتأمين الحياة المستقرة لأنها تجاور دولة تضمر عداءً منقطع النظير لنا ولا أعتقد أنه من الكياسة أن نترك المنطقة على ما هي عليه وتتكرر مثل هذه المأساة فلا بد من توظيف كل إمكانات السودان ومقدرة رجاله في القطاعين العام والخاص وعلاقات السودان في العالم من أجل إنفاذ مشروعات التأمين والدفاع المتناهية دوماً لردع أي معتدٍ. كما أنه من الواجب أيضاً وقف التفاوض طالما أنه لا يجدي ولم يعد سبيلاً لحل المشكلات العالقة والاتفاق على تعاون وتجاور مثمر لأن التنازلات التي بذلها المفاوضون كانت بلا ثمن ولا طائل، فلم تنفع التنازلات من قبل البريطانيين في مواجهة النازية بل كانت حافزاً لهتلر للتمدد ولم تنتصر بريطانيا إلا عندما ترأسها شرشل الذي رفض التنازل، والعبر في التاريخ كثيرة فما يكسب بالقوة لن يحفظه الضعف. فالتفاوض لا يعني أبداً التنازل فشريط التماس حيوي للسودان ويضم ثروات كثيرة، فلا بدّ من حراسته بتوفير أسباب الحياة المستقرة فيه إذ ليس من المقبول أبداً أن يخرج الشعب ثانية ابتهاجاً بتحرير منطقة أخرى تم الاعتداء عليها، فالرشد يقتضي إعلاء شأن الأمن والحماية وتوجيه الطاقات لتحقيق هذا الهدف الحيوي.