المتأمل لتداعيات احتلال هجليج وحيثيات هذه الخطوة وتفاعل الشارع السوداني مع الحدث على مرحلتي الاحتلال والتحرير، يدرك بشكل جلي أن الناس لم يتفقوا على أمر مثل اتفاقهم على مسألة واحدة، وهي أن هجوم قوات الحركة الشعبية على هجليج لم يكن مفاجئاً بأي حال من الأحوال، خاصة أن الصحف كانت تتحدث عن حشود للحركة الشعبية قبالة المنطقة، هذا فضلاً عن هجوم الجيش الشعبي على المنطقة مرتين، مما يعني أنها هدف استراتيجي للحركة كان القصد منه الهيمنة على مفاصل الاقتصاد السوداني الذي خرج منه بترول الجنوب ولم يبق له إلا آبار هجليج التي ترفد الموازنة ب 60 % من النفط المنتج في البلاد، مما يعني أن الخطة كانت تهدف إلى توجيه ضربة قاضية للاقتصاد السوداني في هذه المنطقة الحساسة، فمن شأنها أن تؤدي إلى نفاد الوقود بالعاصمة وارتفاع سعره وبالتالي تحريك الشارع، ومعلوم أن ارتفاع أسعار الوقود وانعدامه سينعكس على أسعار كل السلع التي لم تعد تحتمل ارتفاعاً أكثر مما هي عليه.. إذن الخطة كانت محكمة وخطيرة وقاتلة ومدمرة جداً، ومع ذلك تعاملت معها الحكومة السودانية بشيء من التساهل والإهمال وقصر النظر. والمتابع لكل التعليقات التي صدرت عن الخبراء والمحللين والمهتمين بالشؤون الأمنية والعسكرية، يلاحظ أن تعليقاتهم انصبت في أن الهجوم فقد عنصر المفاجأة، إذ كان متوقعاًَ بدرجات متفاوتة، ولهذا كان الاحتلال من «دويلة» الجنوب مريراً وصادماً للشارع السوداني على صعيديه الرسمي والشعبي وعلى المستويين الحكومي والمعارض، مما دفع البعض للمطالبة باستقالة وزير الدفاع، فيما دعا البعض إلى ضرورة ألا يمر هذا الأمر دونما محاسبة، ولهذا وحده كانت ردة فعل التحرير «مجنونة» بكل أبعاد هذه الكلمة. كوارث السياسيين يقول الفريق محمد عبد الله آدم ل «الإنتباهة» إن المعلومة عن الهجوم كانت متوفرة، وإن وجود حشود عسكرية يعني أن هناك نوايا سيئة، وكنا نتوقع أن تكون هناك تحوطات قوية.. لكن الفريق آدم بعد إقراره بالتقصير رأى أن الوقت مازال مبكراً للحديث عن التقصير، وذلك لأسباب نفسية، وأضاف قائلاً: لكن سوف يأتي الوقت للحديث بصراحة عن هذه الأحداث، ويضيف: «أنا متأكد من أنه لو لم تكن هناك تدخلات سياسية لما حدث الذي حدث، ربما هناك تدخلات غير مرئية، وإذا لم يكن هناك تدخل لما دخلت قوات خليل، ولو ترك الأمر للعسكريين لما كان هناك تدخل من والٍ أو مسؤول كبير، ولما حدثت هذه الكوارث». إذن وبإلقاء نظرة فاحصة للتصريحات أعلاه وبقراءة لما بين السطور، يمكن القول إنه من غير المستبعد أن تكون هناك تدخلات سياسية خفية، كان من نتائجها الكارثية احتلال هجليج، خاصة أن كثيراً من السياسيين أصدروا تصريحات مضللة أدت إلى إصابة الجسد السوداني بالاسترخاء الأمني مما ساعد العدو على تنفيذ خطته بنجاح، وسبق أن أشرنا إلى هذا الأمر غداة احتلال هجليج في تحليل تحت عنوان «سياسيون في قفص الاتهام»، وبعض السياسيين كانوا يتمنون العودة إلى طاولة المفاوضات، ويحنون إلى ذات المنابر التي ذبح فيها السودان أكثر من مرة، في وقت كان فيه الجيش الشعبي تتسارع خطاه نحو الضحية ويمعن في حشد الحشود. أسئلة مشروعة ثمة أسئلة مشروعة لا بد من الإجابة عنها بمنتهى الصراحة والمسؤولية، إذ لا بد أن يعرف الشعب السوداني أين كان التقصير ومن المسؤول الأول عنه؟ ومَنْ مِنْ السياسيين كانت بصمته واضحة في التخذيل سواء أكان عن قصد أو بسوء تقدير أو عن الجهل؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى احتلال هجليج في وقت كانت فيه المعلومات عن حشود المحتلين متاحة على صفحات الصحف؟ وإذا كان هناك من العسكريين ذوي الخبرة المتراكمة يرجح وجود تدخلات فإن الأمر يحتم البحث عن هذه التدخلات وطبيعتها ونواياها، وهل جرى تحقيق عن أسباب التقصير أم ستتم معالجة الأمر بفقه عفا الله عمَّا سلف؟ وهل ما حدث من التضليل بحسن نية أم بماذا؟ الظرافة القاتلة مهما يكن فإن الأمر يجب ألا يمر من غير مساءلة ومحاسبة حتى لا يتكرر مثل هذه الكوارث، ولا بد من وضع حد لتداخل اختصاصات السياسيين وتضارب أدوارهم مع العسكريين، ووضع حدٍ للظرافة القاتلة والرقة السياسية في أمور لا تحتمل اللين والتهاون، وعلاوة على كل ذلك لا بد من ترك تقدير الموقف في هذه الحالة للقائد في الميدان.