{ من القصص الطريفة أن إعرابياً تخاصم مع ابن عمه، وكان الاعرابي فقيراً، أما ابن عمه فقد كان غنياً يرفل في رغد من العيش!! وذات يوم حضر للإعرابي الفقير عدد من الضيوف، واحتار كيف يكرم ضيافتهم فهو معدم، ولكنه فكر بسرعة ونادى ابنه وقال له «يا ولد روح لي عمك وقولو ابوي جوه ضيوف، وقال لك داير سكر وزيت وشاي ولحمة وبصل وحِرِبنا «أي خصامنا» في محلو!!» طبعاً ابن العم أوفى لأخيه بكل ما طلب، لأنه بهذا التصرف يحافظ على تقاليد عريقة تتمسك بها القبيلة ولن يفرط في التقاليد التي تحث على الكرم والشهامة بسبب خصام شخصي بينه وبين ابن عمه، فسمعة القبيلة والأسرة أكبر من أن تضيع بسبب خصام اثنين من أفرادها. والرجل هذا تصرف تصرفاً أشبه بالقومية من أي شيء آخر، فالمصالح العليا للقبيلة «أى الوطن» اسمى من أن تضيع بسبب خصام اثنين من إفرادها..! وما دعاني لأورد هذه القصة هو ما أقرأه للبعض في الصحف ومواقع الشبكة العنكبوتية، وهو أمر جد مؤسف ومحزن، إذ كيف يقف إنسان على الحياد حتى في مسألة عدوان من دولة أجنبية وبمساعدة أعداء السودان تحتل فيه قطعة من أرض السودان.. وسبب هذا اختلاف من يكتبون مع النظام الحاكم، حسناً يمكن الاختلاف مع النظام ومعارضته، لكن أن ينعكس هذا على الوطن فلا وألف لا. { ومرد هذا إلى المفهوم الغريب الذي لا يميز بين النظام الحاكم والدولة رغم أنهما أمران مختلفان تماماً، ولا أدري كيف يمكن لأي إنسان أعطاه الله العقل أن يفرح لتدمير المنشآت البترولية، أو يبتهج لنسف كوبري أو خط أنابيب، ويؤمن على أن هذا العمل موجه ضد نظام الحكم، وهو في الحقيقة موجه ضد الدولة وضد الشعب الذي يعاني أشد المعاناة جراء هذه العمليات التخريبية. أكتب ما أكتب وأنا معارض لنظام الحكم وأبغضه بغضاً شديداً، لكن الآخرين يكرهون، وهناك فرق كبير بين البغض والكراهية، فالبغض ينتهي بانتهاء أسبابه، وهكذا كان معلم الإنسانية عليه أفضل الصلاة وأجمل التسليم، فقد كان يبغض من يعبد الأصنام من دون الله، وكان يتحمل الأذى منهم، ولكن حين شهدوا بألا اله إلا الله تبخر بغضه وتحول إلى محبة خالصة لله، أما الكراهية فهي تعمي القلوب والعقول ولا تنتهي إلا بدخول صاحبها القبر، فالكراهية تقضي على الصالح والطالح ولا تفرق بينهما، والنتيجة الحتمية لتلك الكراهية في الوضع الحالي هي الفوضى التي لا تبقي ولا تذر. لقد خرج كل الشعب السوداني في مسيرات عفوية نابعة من قلب صادق، ولم يكن للنظام الحاكم أي دور في تلك المسيرات، ولو أراد لما استطاع جمع معشار تلك الحشود ولو جاء بمال الدنيا مدداً، فقد كان الدافع حب الوطن لا النظام، ولو أن عشر من خرجوا في تلك المسيرات المخلصة كانوا من مؤيدي النظام لبقي النظام حتى ظهور عيسى عليه السلام كما يزعم بعض قيادته، ومن قال إن عيسى عليه السلام سيتولى عمليات التسليم والتسلم في يوم يقول فيه رب العزة «لمن الملك اليوم» وتأتي الإجابة «لله الواحد القهار». وقد ضرب سيف الله خالد مثلاً في الوطنية وحماية العقيدة بذات أسلوب الإعرابي، إذ كان في محكمة المتهم فيها أمير المؤمنين الخليفة الذي عرفه العالم بالعادل حتى صارت هذه الصفة ملازمة لاسمه بل صارت جزءاً من اسمه. عمر عليه رضوان الله عزل خالداً عن قيادة جيش المسلمين، وكثرت الأقوال في المدينة، وأراد أمير المؤمنين إنهاء هذا القيل والقال، فطلب من الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف أن يشكل محكمة يكون المتهم فيها أمير المؤمنين والشاكي فيها خالد بن الوليد. وكان كل من الدفاع والاتهام يدلي بمرافعاته وأمير المؤمنين وهو من هو يجلس في قفص الاتهام، وبينما المحكمة تتداول القضية فإذا بساعي البريد يأتي برسالة عاجلة، قرأها أمير المؤمنين وناولها لرئيس المحكمة ليتلوها على الحضور.. وفحوى الرسالة كان أمراً جللاً، الأسطول الروماني يقترب من شواطئ جدة.. يا للهول..! وهنا كان الموقف العظيم لسيف الله خالد، فقد استأذن رئيس المحكمة وأعلن أنه لا يرغب في مواصلتها فالأمر أكبر من خلاف بينه وبين أمير المؤمنين.. أنه خطر على الدولة الإسلامية والمسلمين جميعاً، ولم تمض لحظات حتى تحولت المحكمة إلى قيادة أركان حرب. ثم التفت خالد إلى أمير المؤمنين طالباً منه أن يضمه جندياً لا قائداً في جيش المسلمين الذي سيواجه الروم «ولعل لسان حاله كان يقول كما الإعرابي: «وحِرِبْنا في محلو». واستعد المسلمون بجيشهم لملاقاة الروم، وقد نسي الجميع الخلاف الشخصي بما فيهم عمر وخالد، وانصرفوا إلى ما هو أسمى.. حماية الدولة الإسلامية. والمداولات تدور والاستعدادات على أشدها يأتي ساعي البريد برسالة أخرى مفادها أن أسطول الروم اقترب من جدة بغرض التزود بالماء، وقد أخذ حاجته وغادر شواطئ جدة. إنها روح الإسلام التي تسمح بتزويد العدو بالماء، وفي ذات الوقت تتحد وتضع خلافاتها جانباً لتذود عما هو أكبر وأسمى من أي خلاف شخصي أو سياسي، وهو حماية الدولة. فلماذا لا نحمي دولتنا و «حِرِبْنا في محلو».