هياج الشارع وزغاريد الفرحة عبرت عن شعب واحد جيش واحد وأثارت دهشة العالم حولنا، هذا هو السودان و«هلا هلا على الجد» كما قالها شيخ علي في كلمته امام المجلس الوطني.. «البيت الكبير» قام باستطلاع وسط أساتذة وعلماء علم النفس والاجتماع للنظر للموضوع بعين العلم والمعرفة، وخصصنا هذا الاستطلاع للجانب العلمي فقط، لأن الشعب السوداني كله قد قال كلمته واضحة ولم نعد بحاجة لسرد آرائهم، لأن المشاهد وحدها هي التي تحدثت يومها.. وفي ختام جولتنا التقينا أمينة الشابات بهيئة الأحزاب السياسية لتحدثنا عن موقف الأحزاب المسجلة لديهم عندما تعلق الأمر بالوطنية. ومن داخل أروقة كلية الآداب قسم علم النفس بجامعة النيلين كانت بداية جولتنا، والتقينا بالدكتور محمد عثمان حسن الذي أفادنا قائلاً: ليس غريباً أن يتناسى السودانيون خلافاتهم ويقفون في وجه العدو، فهم جبلوا على ذلك، ولأن في هذا الاعتداء تهديد لأمنهم جميعاً، وكذلك يمس تقديرهم لذواتهم لأنه يعني تحقيراً لذواتهم من قبل العدو، كما أن وقوفهم معاً يعبر عن ثقتهم في أنفسهم وتكاتفهم وتعاضدهم، ويعتبر تحقيقاً لذاتهم، وأي مجتمع عندما يواجه خطراً لا ينظر الى الخلافات فيما بينه وإنما يتدافع أفراده جميعا لإبعاد ذلك الخطر المشترك. وفي ذات الكلية كانت لنا وقفة مع الدكتورة سماح مصطفى محجوب التي أفادتنا قائلة: الإنسان في سلوكه محاط بالعديد من الدوافع أو الأشياء التي تعمل على تحريكه في اتجاه محدد، فالدوافع أو الحاجات هي رغبة يعمل الشخص على تحقيقها وإشباعها متى ما سيطرت عليه رغبة أو حاجة أو دافع، فهو يكون موجهاً لكل سلوكه وتصرفاته، وتلك الدوافع والحاجات مرتبة بشكل هرمي ابتداءً من الدوافع الفسيولوجية، ويتدرج الهرم حتى يصل إلى دافع الإحساس بالأمن، فإذا ما تحقق الإحساس بالأمن النفسي يأتي بعد ذلك الإحساس بالانتماء، وبعد ذلك يظهر دافع تقدير الذات، ثم تحقيق الذات كل تلك الدوافع السابقة. وعندما لا يتم تحقيق دافع يظهر ذلك عبر السلوك، ثم تظهر الحاجة أو الدافع الذي يليه. والهجوم على منطقة هجليج أثار الدوافع الخاصة بالأمن النفسي والدوافع والمحركات الخاصة بالشعور بالانتماء، فكل شخص خرج معبراً عن فرحته ومتوحدا مع الرأي العام، وذلك لأنه يحقق أو يشبع حاجة الأمن النفسي والشعور بالانتماء، ولأن الأمر متعلق بتهديد الأمن النفسي، وكان ذلك جلياً من الفزع المصاحب للاعتداء، ولأنه كان عقب مرحلة من مراحل السلام والاستقرار النسبي الذي كان متوقعاً بعد انفصال الجنوب، إذن لقد هُدد الشعور بالأمن لدى الشعب السوداني، فسعى لتحقيق وإشباع ذلك من خلال المساهمات المادية والمعنوية، وتوحّد الرأي العام بالرغم من الشائعات المغرضة التي تحاول التقليل من شأن هذا الانتصار ووصفه بأنه انسحاب لجيش الحركة الشعبية دون معارك. وكذلك طرقنا باب علم الاجتماع عبر اللقاء الذي جمعنا مع الدكتور جبارة محمد جبارة رئيس قسم الاجتماع والأنثربولوجيا والخدمة الاجتماعية بجامعة النيلين، الذي ابتدر حديثه معنا بتهنئة الشعب السوداني والقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى والمجاهدين بالنصر الذي تحقق في هجليج ودحرهم لفلول المرتزقة من أرض الوطن، واسترسل قائلاً في إطار حديثنا عن موضوع النقاش قائلا: ترجع هذه المسأله لأصالة الشعب السوداني، فهو صاحب حضارة وتاريخ عريق في مسألة الوطنية، ويثبت ذلك في كثير من المؤشرات التاريخية نجدها في وقوفهم ضد الإنجليز في فترة المهدية وتوحدهم خلال فترة الاستعمار فهذا أمر مفروغ منه، أضف الى ذلك فإن للشعب السوداني هوية ذاتية مشتركة ليست في مسألة العروبة والإسلام فقط، لكن المسألة متجذرة في الشعب السوداني إلى حد عشق الوطن، وبالتالي «وقت تبقى الحارة» يتوحدون على قلب رجل واحد ويتناسون كل الأمراض السياسية والتشرذمات الحزبية ويصفون ويعلون بأنفسهم فوق الأنا، وهذه سمة لا تتوفر في كل الشعوب ولا تكون الاستجابة ورد الفعل عندها بذات العمق الذي شاهدناه، فلقد رأيت بأم عيني سيارة هايس يوم جمعة النصر على متنها عدد من النسوه وبمعيتهن «دلوكة» ربما كن في طريقهن لرحلة ترفيهة أو مناسية سعيدة، لكن الذي حدث أن السيارة غيرت خط سيرها صوب القيادة العامة للمشاركة في فرحة النصر، وهنالك شيء ملاحظ هو أن الاستجابة التلقائية التي تمت يومها كان معظمها من الشابات، والمرأة السودانية عموماً حفزّت الشارع السوداني، وتوحد وجدان الشعب السوداني الذي يظهر في وقت المحن، فهذا يرجع لطبيعة التنشئة الاجتماعية إضافة الى أن السوداني لا يرضى «الحقارة»، ومفهوم الوطنية عند السودانيين يسمو فوق الخلافات السياسية ولديهم ثوابت بمثابة خط أحمر نجده عند الصغير والكبير ولا اختلاف عليها، والمجتمع السوداني مازال بخير رغم التحديات والظروف والصعوبات الاقتصادية الكبيرة التي تنغص عليه حياته. واختتم جبارة حديثه معنا بقوله: «لو ما كنت سوداني وا أسفاي وا مأساتي وا ذلي».