السؤال حول الإمرة والشورى من أهم السؤالات التي تتردد حول الحركة الإسلامية. وأهمية السؤال تنبع من كون الحركة الإسلامية تنظيم مستحدث لتحقيق مقاصد يتفق عليها أعضاؤها. وهو تنظيم يقوم على التراضي على تقسيم السلطات والصلاحيات داخل التنظيم بين المستويات المختلفة والمسؤوليات المتعددة. كما يقرر وجوب السمع والطاعة لأولي الأمر في التنظيم ما التزموا بالطاعة لله ولرسوله واحتكموا للنظم والقواعد المتفق عليها داخل التنظيم. والسؤال حول الإمرة لا يقل أهمية عن السؤال حول الشورى وإلزاميتها. والسؤال المتصل بالإمرة أو الأمارة أو مسؤولية القيادة سؤال في غاية الأهمية لأنه يتصل بمسائل فرعية متعددة. وأهمها شرعية إمرة الآمر على التنظيم في كلتا الحالتين، حالة وجود سلطة إسلامية شرعية. وحالة غياب هذا السلطان الإسلامي الشرعي. ثم يتفرع عن ذلك سؤال ما هو نطاق هذه الإمرة وحدودها وكيفية نصبها وعزلها؟ وعلاقة الإمرة بالشورى؟ وما هو نطاق الشورى ومستوياتها وحدودها؟ وما الفرق بين الشورى والاستشارة؟ وما علاقة الشورى بالديمقراطية؟ هل هي رديف للديمقراطية أم صورة من صور الديمقراطية؟ أم هي شبيه إسلامي للديمقراطية؟. فقه الحركة الإسلامية في الإمرة مثل فقهها في إقامة التنظيم أنه واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين. فالإمرة التنظيمية ليست بديلاً للإمرة العامة «الإمامة» في الدولة.. وليست بديلاً لأية إمارة أو رئاسة أخرى في أية مؤسسة أو تنظيم من تنظيمات المجتمع أو الدولة. فالتنظيم الإسلامي تنظيم دعوي نهض للدعوة للاحتكام للإسلام ولشرعه وعقائده وتعاليمه وتأسيس الحياة على نهجه القويم. وفقه الإمرة في التنظيم يستند إلى الحديث النبوي الشريف الذي رواه عبدالله بن عمرو «لا يحل لثلاثة يكونون فى فلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» رواه أحمد وحديث أبي داود مثله «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم» وحديث أبو هريرة مثله. والإمارة عند الجمهور واجبة عقلاً وشرعاً. فأيما ثلاثة أو يزيدون توافقوا على مقصد لينجزوه جماعة فعليهم أن يؤمروا أحدهم. وليس بالضرورة أن يكون الأمير واحداً فإنه مع زيادة العدد وتعدد المسؤوليات فيجوز أن يتعدد الأمراء وفق ضوابط مرعية يُتوافق عليها مسبقاً قبل عقد الإمرة لهم . فتكون هي الشرط الذي يوفر الشرعية للإمرة ويحدد نطاقها وحدود مسؤوليتها. وقد يرد السؤال من يملك الولاية على عقد الإمارة للأمير أو الأمراء؟ وخيار الحركة الإسلامية الذي استنبطته من فهمها للسنة والسيرة والكتاب إن الإمرة لسائر المؤمنين. فإن كانوا في جماعة خاصة فلسائر أعضاء تلك الجماعة. لأن الله سبحانه وتعالى يقول «وأمرهم شورى بينهم» فهو نسب الأمر لهم جميعاً وجعل القرار شورى بين سائرهم . ومصداق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يدُ على من سواهم». فالشخصية الاعتبارية لكل مؤمن مساوية للشخصية الاعتبارية للمؤمن الآخر.. والآية عندما تقرر أن المؤمنين إخوة فهي إنما تقرر مبدأ المساواة بينهم. بينما يقرر الحديث في شأن من دخل في ذمة المؤمنين بأن له ما لهم وعليه ما عليهم «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وهكذا فإن الأعضاء في التنظيم يتساوون في الولاية عليه.. ولا يملك أحدُ منهم أن يدعى فضلاً زائداً عليهم. ولا يملك أحدٌ أن يتولى الأمر وغالب الجماعة له كاره. ولا تملك ثلة من الجماعة أن تفرض ما تراه على سائر الجماعة إلا إقناعاً واقتناعاً. وقضية الإمرة الطوعية هذه قضية جوهرية لأنها يترتب عليها قضية شرعية الأمر. فمشروعية الأمر أو القرار لا تكتمل فتستوجب السمع والطاعة إلا إذا استوفت شرطين. الشرط الأول هو أن يوافق ما جاء به الله ورسوله والثانية أن يصدر الأمر أو القرار من أمير جاء بالطوع والاختيار لا بالغلبة. وصحيح أن جماعة من الفقهاء قد جوزوا إمارة المتغلب دفعاً للفتنة. ولكن الأمر لا ينطبق على تأسيس التنظيم الإسلامي فالتنظيم ليس بالدولة. وإنما هو كيان طوعي ثم إن الحركة الإسلامية لم تأخذ في وقت من الأوقات بفقه درء الفتنة ولو بإعطاء الشرعية للمتغلب المستبد. ذلك أنها تقرأ في السنة المطهرة من حديث أنس رواه الترمذي «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وذكر منهم رجلاً أمّ قوماً وهم له كارهون». فإمامة الإكراه تستحق لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يرضى بها مؤمن. أما درء الشر الأكبر بالشر الأصغر ففقه يعلمه جميع المؤمنين ولكن استخدامه درعاً لحماية إمارة المستبد المتغلب أمر آخر. فالأصل أن إمارة المتغلب المستبد لا تجوز ولا تقبل. أما أن تكون دفعاً لشرٍ أعظم فمسألة تُقدر بقدرها في وقتها وظرفها. ولا يتوجب أن يُستخدم خوف الفتنة لإشعار أئمة الاستبداد أنهم في وقاءٍ من عصيان الشعوب إذا ما استخدموا العنف والقوة للاستيلاء على الحكم أو البقاء فيه. والحركة الإسلامية في السودان لا تأخذ بجواز سلطة المتغلب. ولذلك فقد أجازت لنفسها الخروج عليه بالسلاح. وبخاصة إذا كان ذلك المستبد المتغلب مستهيناً بشرع الله غير ملتزمٍ بتحكيمه أو متهاوناً في شأن إنفاذ الأحكام الشرعية خوفاً من دائرة تصيبه أو دنيا تفلت من بين يديه فلا يصيبها. ولقد أجازت الحركة الإسلامية الخروج على الحكم المايوي «حكم نميري» بالسلاح لأنه متغلب مستبد لا يحكم بشرع الله. ثم لما أعلن تحكيمه للشريعة اختلف الرأي في شأنه بين من يرى مصالحته وإعلان الطاعة لحكمه باعتباره حكماً شرعياً وإن لم يجر نصبه بالاختيار والطوع من الشعب. ورأى آخر يرى مصالحته ولكن يرفض المشاركة في حكمه لأن حكمه ليس شرعياً من باب أنه جاء بالقهر والغلبة وليس بالبيعة والاختيار الحُر من الجمهور.. ورأت فئة أخرى أنه لا يجوز مصالحته ولا مشاركته بل بمقاومة حكمه المستبد ما وجدت الحركة الإسلامية إلى ذلك سبيلاً.. وفي أثناء هذا الجدال الفقهي نشأ جدال فرعي حول الطاعة لمن تكون في ظل حكومة لا تمتثل لشرع الله أو حكومة تحتكم للشريعة ولكنها لم تأت بصورة شرعية أي بالاختيار الطوعي من الجمهور.. وأما الحالة الثالثة فهي حكومة تحتكم إلى الشرع وجاءت بالاختيار.. وكان غالب الرأي في الحركة الإسلامية أن طاعة أمير الحركة أولى من طاعة حاكم لا يحكم بالشريعة وطاعة أمير الحركة أو أمرائها أولى من طاعة حاكم لم يأت بالاختيار الطوعي بل جاء متغلباً مستبداً. وأنه لا تعلو طاعة الحاكم أي الأمير ذي الشوكة على طاعة أمراء الحركة إلا إذا كان يحكم بالشريعة، وجرى اختياره بصورة طوعية اختيارية، فعندئذٍ تكون طاعته مقدَّمة على طاعة أمراء الحركة الإسلامية. وكما ترتبط الإمرة بشرعية الحكم من حيث امتثاله للشريعة وتمثيله للإرادة العامة فهي ترتبط أيضاً بالمسألة الدستورية.. أى بمدى التزام الآمر بالنظام الأساس للتنظيم أو الدستور العامل للدولة.. فالنظام الأساس أو الدستور هو القاعدة التي تصف نطاق سلطة الأمير وحدودها وتفويضها أحياناً وتقييدها في أحيان أخرى.. وذلك لأنه كما يقرر الحديث «المؤمنون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» ولذلك فإذا اشترط المؤمنون في مقابل الطاعة أن يُستشاروا أو أن تجرى مشاورة مؤسسات بعينها قبل اتخاذ قرارات معينة فيجب على صاحب السلطان أن يتقيد بذلك.. فإن لم يفعل فلا سمع ولا طاعة. فالطاعة مشروطة بالطاعة لله ولرسوله وطاعة الله ورسوله تقتضى الالتزام بالشروط التي قطعها الحاكم على نفسه قبل أن يُقلَّد الإمرة على المؤمنين. وهذا يعني أن الشورى تكون معلمة إذا كان النظام الأساس لا يشترط إلزاميتها في بعض الأمور التي قد تكون مستعجله أو تكون من فروع الأمور وتفاصيلها. وقد تكون ملزمة وواجبة قبل اتخاذ القرار شورى عامة في شكل استفتاء أو خاصة للبرلمان أو لمؤسسة ذات اختصاص أو شورى خاصة لأشخاص بعينهم يحددهم النظام الأساس أو الدستور.. فإذا لم يلتزم الحاكم بإمضاء الشورى وأراد أن يستبد بالأمر جاز عصيانه عصياناً خاصاً أي الامتناع عن الطاعة لأمره أو عصياناً مدنياً عاماً لإسقاطه.. لأنه لا يجوز لفرد مهما كان أن يستبد بشؤون الأمة دونها وبخاصة تلك التي قررت وجوبية الشورى بشأنها. ولا شك أنه كان في تاريخ الحركة الإسلامية في السودان حوادث حاول القائمون بالأمر الاستبداد بتقرير بعض الأمور المهمة دون الالتزام بما يمليه النظام الأساس للحركة.. وقد كانت النتيجة دائماً هي إما رجوعهم لغالب الرأي في الحركة أو خروجهم أو إخراجهم منها.. ومضت الحركة لتحقيق مقاصدها لم يضرها من خالفها ولو كان بين الناس ذو شأن عظيم.