وقع اختيار سيدنا عمر على معاوية والياً على دمشق مع وجود عدد كبير من السابقين من الصحابة لأنه كان الأكثر قدرةً والأجدر تأهيلاً والأنسب للشام، وما كان سيدنا عمر يجامل أحداً حتى ولو كان ابنه في أمور الإسلام والمسلمين. كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - وخلفاؤه مدركين لقدرات أسرة ابي سفيان الذي كان زعيم قومه وقائد قريش في محاربة المسلمين لذلك اختار سيدنا أبو بكر يزيد بن أبي سفيان لفتح دمشق وودّعه وأوصاه ودعا له، وكان في جيشه والده وأخوه معاوية وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وأبو عبيدة عامر ابن الجراح، وعندما كلّف سيدنا عمر معاوية لفتح قيسارية كتب له : «أما بعد، فقد وليتُك قيسارية فسِر إليها واستنصر الله عليهم وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم» ففتحها وأصبح أميراً عليها وهو في الثالثة والثلاثين. وعندما ولَّى عمر معاوية على«دمشق» وشرحبيل بن حسنة على «الأردن» كتب إليه والده أبو سفيان » يا بُني إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا فصاروا قادةً وسادة وصرنا أتباعاً، وقد ولَّوكَ جسيماً من أمورهم فلا تخالفه ...«، أمّا أُمّه هند بنت عتبة فكتبت إليه » والله يا بُني إنّه قلّ أن تلد حرّةٌ مِثلَك وأنّ هذا الرجل قد استنهضك هذا الأمر فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت». والتاريخ يذكر في مفاخره جهاد سيدنا معاوية في قيادة الجيوش التي فتحت بلاد الروم وتحت لوائه عدد من صحابة رسول الله حيث توالت انتصاراته حتى طرقوا أبواب عمورية وتدفقت الأموال والغنائم على المسلمين وهم يمدون بها إخوانهم في الحجاز وتصل الأموال لخليفة المسلمين مع انتصارات الجيش المتوالية الأمر الذي جعل سيدنا عمر ابن الخطاب يفكر في زيارة معاوية في الشام ومعه بعض الصحابة، وعندما علم معاوية بذلك خرج في موكب رهيب وكبير ليقابل الخليفة وكان الخليفة عمر قادماً إلى الشام يركب على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف ولم يفطن معاوية لذلك وإذا به يتجاوز الخليفة حتى أخبره أحد أصحابه أنه جاوز الخليفة فرجع إليه بموكبه ودار بينه وبين عمر الذي كان غاضباً حوارٌ لطيف، حيث سأله عمر: «أنتَ صاحب الموكب؟ أجاب معاوية : نعم، سأله عمر: هذا حالك مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ معاوية: هو ما بلغك، قال له عمر: ولِمَ تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى الحجاز، قال له معاوية: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة فيجب أن نُظهر من عِزّ السلطان ما يكون فيه عِزُّ الإسلام وأهله، نُرهبهم به، ثم قال لعمر بأدب: فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت، قال له عمر: يا معاوية ما سألتك عن شيء إلا وكان لك منه مخرج لئن كان ما قلت حقاً إنّه لرأي أريب، وإن كان باطلاً إنّه لخدعة أديب، قال له معاوية: فمُرني بما شئت فأجابه لا آمرك ولا أنهاك»، عند ذلك قال عبد الرحمن بن عوف لسيدنا عمر: «ما أحسن ما صدر الفتى عمّا أوردته فيه» أجاب عمر : «لحُسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه»، وعندما حج معاوية وكان في موكب وأُبهة ضربه عمر بالدُّرة ومعاوية يسأله لِمَ ذلك؟ فيُجيبه عمر: والله ما رأيتُ إلا خيراً وما سمعتُ إلا خيراً، ولو بلغني غير ذلك لكان منِّي إليه غير ما رأيتم ولكني رأيته فأردت أن أضع منه ما شمخ. ومعاوية هو الذي حقق رؤيا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - في فتح قبرص وحقق وعد رسول الله لأُمِّ حرام بنت ملحان التي دخل عليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل أكثر من عشرين سنة ونام عندها وكانت هي سعيدة وفرحة أن يقِيل رسول الله عندها واستيقظ رسول الله وهو يضحك فقالت يا رسول الله : «ما أضحكك ؟ فقال : أُناسٌ من أُمتي عُرضوا عليّ يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأَسرَّة، وهنا تمنت أُمُّ حرام أن تكون بين هؤلاء المجاهدين، فقالت يا رسول الله: اُدعُ الله أن يجعلني منهم، فقال لها: أنتِ منهم»، ثم نام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - ثانيةً ثم استيقظ وهو يضحك فكررت سؤالها وطلبها فقال لها : «أنتِ من الأولين». وظلت أُم حرام فرحة متشوقة لتحقيق حلمها الكبير، وموعود رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أن حققه معاوية في عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وكانت أول غزوة للمسلمين في البحر بقيادة معاوية حتى استسلمت قبرص بعد حصارها وقبلوا دفع الجزية للمسلمين بعد أن كانوا يدفعون للروم، ودخل الكثير في الإسلام وعند عودة الجيش إلى الشام جلست أُمُّ حرام على بغلتها التي ألقتها عن ظهرها فوقعت على عنقها ميتة فدفنت هناك لتكون من المسلمات المهاجرات المجاهدات في سبيل الله وأصبح قبرها هناك معروفاً بقبر المرأة الصالحة. وهكذا أراد معاوية - رضي الله عنه أن ينشر دعوة الإسلام في البر والبحر ويجعل جزيرة قبرص جزيرة إسلامية. وهكذا كان معاوية - رضي الله عنه كما قال عنه الإمام ابن كثير: «انعقدت ا لكلمة على معاوية وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين فلم يزل بالأمر مستقلاً إلى سنة وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدلٍ، صفح ٍ وعفو».وقال عنه قبيصة بن جابر : «ما رأيتُ أحداً أعظم حلماً، وأكثر سؤدداً، ولا أبعد أناةً، ولا ألينُ مخرجاً ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية». وسئل المعافي بن عمران: «أيٌّ أفضل معاوية أم عمر بن عبد العزيز، فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجلٍ من التابعين؟! معاوية صاحبه، وصهره وكاتبه، وأمينه على وحي الله».