لحظة استئناف ضخ النفط السوداني من حقل هجليج يمثل انتصاراً للإرادة الوطنية في معركتها الاقتصادية والسياسية. إنها لحظة عندما يراها العدو حتماً سينكوي بلهيب غيظه ونيراه حقده.. لقد بذل شباب السودان من المهندسين والفنيين والإداريين جهداً جباراً في إصلاح الأعطاب التي تعرضت لها مراحل إنتاج الحقل بدءاً من الطاقة الكهربائية الرئيسة ثم محطة التحكم ومسار خط الأنبوب وبقية الملحقات، وما كان لتلك المحطات أن تعاود الخدمة في هذا الزمن القياسي لولا إرادة هؤلاء الشباب الذين حق للشعب السوداني أن يفخر بهم وبقواته المسلحة والأجهزة المساندة لها في تحرير الحقل ثم مواصلة العمل في تأمينه، نقول بفرح غامر شكراً شباب بلدنا فقد أطعتم شعبكم وبررتوه وضحيتم لأجله ولأجل نهضته وثروته بخطوات ثابتة وواثقة.. الدولة تستمد مصداقيتها وقوتها من عزم هؤلاء الشباب ومن عزيمتهم، وما قدمه هؤلاء يمثل رداً قاتلاً للذين لا تزال عيونهم تشرئب للدعم الأجنبي ويسيل لعابهم للمعونات الخارجية التي هي سم قاتل لشعبنا.. (55) ألف برميل في اليوم هي حجم إنتاج حقل هجليج قبل أن تمتد إليه يد المغول عقدة الحركة الشعبية المتهاوية، ها هو الإنتاج يعود والتفاوض يمضي مع أكثر من (07) شركة عالمية لتعمل في مجال النفط بالبلاد وإن ذات الشباب بقيادة الرجل المتفاني ابن السودان البار الدكتور عوض أحمد الجاز، حقاً علم الجميع سر عودة الرجل لهذه الوزارة الحيوية والإستراتيجية وإصرار رئيس الجمهورية عليه، معركة هجليج بشقيها العسكري والاقتصادي تستحق أن توثق وتدرس للأجيال حتى يعرفوا قدر الرجال وتضحياتهم الوطنية لأن التربية الوطنية وحشد الإرادة الوطنية تنبت وتنمو من خلال معرفة الموقف والتضحيات. ما قدمه شباب كتيبة البترول أمس في هجليج والوجوه المغبرة والمعفّرة التي شاهدها كل العالم أمس تمثل قراءة صادقة لمستقبل الاقتصاد السوداني، كما أن حجم الخراب الكبير الذي لحق بحقل هجليج لا يمكن أن ينظر له بأنه خسائر فقط لتأتي لجان التحقيق والرصد وتحدد حجمه وننتظر التعويض.. بل يجب مع كل هذه التدابير أن نتحسب لعدم تكراره مرة أخرى وأن تتم مراجعة كاملة لحجم القوة التي تعنى بتأمين المواقع النفطية وكذلك إمكاناتها.. نعم هذه المرة قد خاب فأل الغاصبين العاملين بالوكالة لبعض الدول المتربصة بالسودان ومقدراته والمحاربين نيابة عنها إلا أننا علينا أن نرد هذا الكيد بالأسلوب المنطقي الذي يعلمونه ويدركون ألمه..سبق أن قلت في هذه الزاوية وخلال الأيام الأولى للاعتداء على هجليج أن جيش الحركة قد اصطحب معه «6» خبراء متخصصين هم الذين قاموا بأعمال التخريب المنظم ونهب بعض المعدات والأجهزة التقنية، وقد صدق ما أشرنا له ومن واقع الحال وحديث (أبو الجاز) والمسؤولين أن التخريب كان فعلاً منظمًا وينم عن أنه قد تم بواسطة خبراء متخصصين يعلمون كيف يتم التدمير وأين تكون الضربة القاضية والقاتلة. من هجليج أمس كان المشهد مختلفاً والفرحة كانت مختلفة، كانت لحظة تاريخية لا تقل عن يوم النصر الأكبر، لحظة إعلان ضخ البترول من أمام محطة التحكم الرئيسة، وقد شاهد بعض السودانيين وقد ادمعت عيناه من فرط الفرح وهو يتابع تلك اللحظة عبر شاشة تلفزيون السودان الذي نقل الحدث على الهواء مباشرة. البشريات تترى على أهل السودان رغم الضنك وغلاء السوق وأن المرحلة المقبلة ستشهد ضخ بترول السودان من مربعات جديدة تمثل عمق السودان الاجتماعي والاقتصادي من ولايات سنار، البحر الأحمر، الشمالية، دارفور، كردفان.. ضخ النفط من هذه الولايات سيتكامل مع إستراتيجية النهضة الاقتصادية في الثروة الحيوانية والزراعية والصناعية والسياحية ولا نقول إن خطة ورؤية الدولة لتطوير هذه القطاعات قد بلغت النجاح والمثال لكن البداية مبشرة والحاجة أكبر إلى توسيع دائرة الاهتمام بتجارب الآخرين في هذا المضمار وصيغ العمل والأنموذج الذي نهضت عبره كثير من دول العالم النامية مثل البرازيل والهند وكوريا ونمور آسيا الستة. نعترف أننا لا نزال نتلمس الطريق في مجال استخدام التقانة الزراعية والحيوانية، والمؤشرات تكشف الفجوة في هذا النحو، لكن نعترف أيضاً بأن الإرادة تمضي نحو بناء قاعدة معرفية تدفع هذا المجال وتساهم في نقل تلك التجارب وتوطينها بالبلاد، رغم أنها أي مساعي الدولة في هذا المجال كثيراً ما تصطدم بعناد المجتمع وسلوكه في العمل وإصراره على التمسك بتلك التقليدية في التعامل مع قنوات الاقتصاد والموارد الأساسية في المجالات آنفة الذكر.. تواصل ارتفاع معدلات الفقر بالبلاد ليس بسبب قلة الموارد أو تضاؤل فرص العمل ولكن سببه الرئيس ضعف التفاعل الشعبي مع وسائل الإنتاج ونقص المبادرات سواء كانت الفردية أو الجماعية في ابراز الهمة وطرح بدائل جديدة في الإنتاج السوداني لا يزال هو في حاجة الى المزرعة المتكاملة التي تضم (الحيوان والمزارع) والمزرعة التي تنتج اللحم والبيض واللبن والعلف في آن واحد، السودان لا يزال في حاجة الى المزرعة التي تنتج الفواكه والخضروات وبجواره هنكر مخصصة لإعدادها لأغراض التصنيع وبجواره المصنع نفسه الذي منه تخرج الفاكهة والمنتجات معلبة صالحة للتصدير. نحن ما زلنا نبيع ماشيتنا حية دون أن نسأل أنفسنا لماذا نعمل كل هذا دون النظر للعلمية والمنهجية في هذا الوضع.. لماذا لا تضع ولاياتنا ومؤسساتنا المركزية المستثمرين في هذه القطاعات بالعمل لصالح الاقتصاد الوطني وليس لصالح الاقتصاد الذاتي الضيق.