..التحقيق الأدبي عرّفه اهل الاختصاص بأنه: «هو العودة إلى الأصول المخطوطة القديمة وإعادة طباعتها معتمدين على أكثر من نسخة مع المقارنة فيما بين تلك النسخ، والإشارة إلى ما سقط منها من تصحيف وتحريف وأوهام وأخطاء من قِبَل النسّاخ بحيث يكون الكتاب محققًا أقرب في تصويبه إلى النسخة الأصل التي وضعها المصنف» .. وفيما يلينا «لحظات باقية» للشاعر إدريس جماع لم يجد حظه من التحقيق الأدبي، وكذا التيجاني يوسف بشير لم تُحقَّق أشعاره وهذا ما أدى إلى ضياع شعر الأخير بحسب مراقبين يرون ضرورة التحقق من الدواوين حتى لا يتعرض إنتاج الشاعر للضياع أو السرقة.. ونماذج عديدة. إذن ماذا يُقصد بالتحقيق الأدبي، وأي الإنتاج يُحقق ذاك الذي مضت عليه عصور أم بالعمل الحالي، وما فائدة التحقيق وكيف ينظر للأدب العربي؟ جملة من الأسئلة أجاب عنها أهل الاختصاص فأفادوا: التجاني وجمّاع.. الدكتور الصديق عمر الصديق أكد في حديث له مسبق مع نجوع أن التحقيق الأدبي في الدواوين الشعرية مهم ويزيد من رصيد الشاعر، إلا أنه قال إن الشاعر إدريس جماع عليه رحمة الله لم يُحقق ديوانه الوحيد «لحظات باقية» بالرغم من المكانة المرموقة التي وجدها الشاعر، وإذا كان قد حُقق ديوانه لربما وجد مكاناً أرفع بكثير. وأضاف الصديق أن الأمر نفسه نجده عند التيجاني يوسف بشير الذي لم تُحقق دواوينه وبعض أشعاره قد ضاعت. تمام المعنى.. الأستاذ الناقد عزالدين ميرغني قال في حديثه مع «نجوع» إننا دائماً نحقق في الأعمال الشعرية القديمة المخطوطة باليد والتي لم تُراجع قبل ذلك ولم يكن صاحبها قد دفع بها إلى مصحح لُغوي أو إلى دار نشرٍ فهي قد وجدت كما هي وليست مشكلة بالطبع لأن الكلمات في زمنٍ قديم كانت الكلمة تحمل أكثر من معنى ولذلك يتطلب التحقيق أن تُشكّل الكلمة وتتماشى مع المعنى العام للقصيدة، فإذا قُصد معنى غير الذي قصده الشاعر فإن القصيدة ستختل وبذلك قد يُظلم الشاعر لأنه في الشعر القديم توجد وحدة البيت وليست وحدة القصيدة كما في الشعر الحديث. ويواصل ميرغني حديثه: ولذلك التحقيق يُقصد به تمام المعنى. أما في القصة والرواية فلا يحققان لأنها كتابات حديثة والقصة والرواية يحملان معناهما في النص كله وليست بجمله واحدة أو كلمة واحدة. وأحياناً يلجأ الأوربيون في القصص والروايات القديمة إلى شرح بعض الكلمات المبهمة وتوضيح الأمكنة التي لا يعرفها الجيل الجديد، ويعتبر هذا نوعاً من التحقيق. كما أن التحقيق كان مهمًا جداً في الشعر القديم خاصةً الدور التي نشرت أشعار المتنبي وأبي تمام وأبي نوّاس كنماذج لأن مخطوطاتهم كانت قديمة جداً، وبعض الكلمات فيها تآكلت وبعضها اختفى؛ لذلك كان لا بد من التحقيق، بجانب أن بعض الأشعار قد وُجدت بدون شاعر والتحقيق في هذه الحالة يكون مفيدًا. تراث قديم.. الدكتور ابراهيم اسحق قدّم افادته قائلاً: لعل امر التحقيق بصحة ما يقدّم للقارئ كان تراثاً قديمًا من زمن النسخ اليدوي. بعد اكتشاف المطبعة في القرن السادس عشر اصبح امر التحقيق العلمي للنصوص المطبوعة اجدى من النشر بدون التحقيق، لكي يتجاوز الناس امر الاختلافات بين النُسخ المنسوخة يدوياً، اذ المعلوم ان النسّاخ موبوءون من التصحيف وهو اكتشاف الأخطاء في ساعة النسخ. لدينا في اللغة العربية اصبح هذا النسق في الطباعة ملزماً منذ بداية القرن العشرين وقد راد هذا الطريق أساتذة عظام من مصر خاصة مثل محمد ابو الفضل، وجاد المولى، ومحمود محمد شاكر واخوه احمد، وعبد السلام هارون. دواوين ومخطوطات التراث العربي التي اعدّت للطباعة منذ اول القرن العشرين حرص ناشروها على خروجها محققة ومنظفة من الأخطاء. لدينا في السودان عمل عدد من الاكاديميين علي تحقيق دواوين الشعراء الذين ماتوا ولم تطبع دواوينهم، وخير مثال لذلك تحقيق المرحوم محمد ابراهيم ابو سليم لمنشورات المهدية وديوان توفيق صالح جبريل. آخر هذه المجهودات التي رأيتها تحقيق ابناء المرحوم الصاغ محمود ابو بكر لديوانه وتقديمه للقراء في 2011م. لا نستطيع ان نقيم عملاً مثل «طبقات ود ضيف الله»، الا اذا نظرنا الى التحقيق الرفيع الذي قدمه البروفيسور يوسف فضل حسن اطال الله عمره بهذا الكتاب. وفي غرب السودان يعتبر تحقيق المرحوم مصطفى عساكر لكتاب محمد بن عمر التونسي «تشحيذ الاذهان في سيرة بلاد العرب والسودان». وهكذا لا تقوم للثقافة هيبتها الا في وجود مناهج التحقيق. آخرون يرون ان هناك نوعين من العمل الذي يصادفه المحقق في عملية التحقيق الأدبي، اما ان تكون موضوعات مجموعة سابقاً لتشكل عملاً ادبيًا خاصًا بعلم من الإعلام كدواوين الشعر وغيرها من المخطوطات الادبية. وهناك شكل آخر وهي ان كانت الأعمال غير مجموعة سابقاً كما هو الحال بوجود شعراء وادباء مغمورين وتراثهم متناثر في بطون المؤلفات، وهذا يعتمد منهجاً معيناً في التحقيق. في الكتب القديمة الأستاذ الشاعر محيي الدين الفاتح اكد ان التحقيق الادبي يكون في كتب قديمة في الاصل سواء كانت مخطوطة او ذات طبعة قديمة فيها اخطاء، فمسؤولية المحقق هي الإخراج السليم لنصوص النسخة، واذا كانت هنالك كلمة غير واضحة فعليه توضيحها وكذا الجمل غير المفهومة فعليه شرحها في الهامش، اما اذا كانت المخطوطة قديمة جدًا في عصر ماقبل التنقيط فتقع عليه مسؤولية القراءة السليمة والخروج من مأزق المتشابه، ومن واجب المُحقق ايضاً التأكد من نسبة المخطوطة الي مؤلفها الحقيقي، فعلى المحقق ان يعرف جيدًا عصر الكتابة واسلوب المؤلف حتى يحكم على صحة المخطوطة، مثلاً هناك قصيدة شهيرة تنسب لامرئ القيس مطلعها: لمن طلل بين الجدية والجبل.. محل قديم العهد طالت به الطيل.. وقد كشف كثير من المحققين ان هذاالموضوع النص ليس لامرئ القيس لأن فيه ابياتًا تظهر معرفة الناس بالإسلام، ونصوص أخرى تدل على الفتوحات العربية وبالتالي النص لا يصح نسبته لامرئ القيس، والأمثلة كثيرة في دواوين الشعر والكتب وحتى في كتب التاريخ. وختم محيي الدين الفاتح حديثه بأن المحقق عموماً لا بد ان يكون عالماً باللغة واسرارها وبالتاريخ وبعصور الكتابة وله مقدرة على اكتشاف تاريخ الورق.