هذه القِيمة التي أفردها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بحديث يُعلِّقه الكثيرون منِّا في المكاتب والبيوت والمدارس، ودواوين الدولة حيث يقول: «إنَّ الله يُحبُّ إذا عَمِل أحدكم عملاً أن يُتقنه» لا وجود لها في ثقافتنا ولا في حياتنا؛ لأنّ الإتقان قِيمة تربوية دينية وسلوكية في حياة المسلم يتقرَّب بها إلى الله تعالى. وإذا نظرنا إلى أُمتنا ووطننا من خلال هذه القِيمة فإنَّنا نستطيع القول دون تردد إنّنا أُمة تفتقد خاصة الإتقان، تفقده تربيةً في سلوكها، وتجويداً في فعلها، وهدفاً في مناهجها، وظاهرةً في حياتها، فإذا نظر الإنسان إلى مجال العمل اليدوي افتقد هذه الصفة في الصُنّاع إلا في حالات نادرة، وإذا بحث عنه في مجال التربية والقدوة والسلوك العام لم يجد له أثرًا كبيرًا، وإذا سأل عنه في مجال الفكر والنظر فقَلَّ مَن يتحدّث عنه، نحن أُمة لا تُجوِّد الأشياء ولا تُتقنها في أي مجال من مجالات الحياة، لأنّنا نفتقد أولاً فكر الإتقان، ونفتقد ثانياً أدوات الإتقان، ونفتقد ثالثاً الإنسان المُتقِن، ونتيجةً لغياب الفكرة والأداة والإنسان المربَّى على الإتقان يفقد عملنا كله خاصة الإتقان. ليس في تربيتنا وتكويننا البنائي أن نُتقن ما نقول وما نفعل، نتحدث كثيراً عن الآخرين فنعجب بهم وبتطورهم وتفوقهم علينا ولكننا لا نأخذ بأسباب التقدم وشروط التطور، وكأنّنا أُمة خُلقت لتتحدث كثيراً، وتُخطط كثيراً، وتنظر كثيراً وتعمل عملاً قليلاً لا إحسان فيه ولا إتقان، وإذا قمنا بمراجعة سريعة لسياساتنا التربوية والاقتصادية، والاجتماعية والسياسية منذ الاستقلال نستدلُّ بها على أنّ فقدان خاصة الإتقان هو سبب تخلُّفنا، وتدهور أمورنا، وضبابية مستقبلنا. إنّنا ولا شك نسعى للأخذ بأسباب التقدُّم وشروط التطور غير أنّ الانتكاسات في حياتنا تتوالى، والإحباطات تتعدد، والإخفاقات أصبحت سِمةً لحياتنا كلها، والآمال تخبو وتضمحل، ولأنّنا لا نسيطر على حاضرنا فلا رؤية واقعية مبشِّرة لمستقبلنا، ومستقبل أبنائنا.. نحن في حاجة إلى إعادة صياغة حياتنا، وترتيب الأولويات، وضبط النسب وقبل ذلك كله أن نعرف مَن نحن حقيقةً؟. إنَّنا في حاجة إلى فقه في فلسفة التغيير الاجتماعي يهدف إلى تغيير إنسان السودان من الداخل ليقوم بتغيير إطاره الخارجي بمحض إرادته ووفق قناعاته إذ أنَّ الكثيرين لا يزالون يرون أن تغيير اللافتات والشعارات يمكن أن يغيِّر الناس في فكرهم وسلوكهم ويجعلهم مقبلين على الله عابدين له، كذلك فإنّهم يخلطون بين الغايات والوسائل فيجعلون الوسائل غايات، ومِن ثم يعتبرون وجود حكومة إسلامية غاية يجاهد الناس من أجلها، وبينما الحكومة الإسلامية وسيلة لتحقيق سر الوجود البشري وهو تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى في النفوس أولاً ثم سر الجماعة بعد ذلك والحكومات والتنظيمات ما هي إلا وسائل تحقيق هذه الغاية، بعض الناس يجعلون الوسائل غايات منها الوصول إلى الحكم والسلطة، وبالتالي المحافظة عليها بما هو محكوم بالشرع أو خارج عن ضوابطه وأحكامه، فليس غاية المسلم إلا تحقيق الغايات التي يريدها الإسلام بصرف النظر عن الأشخاص أو الجماعات التي تُنفِّذ هذه الغايات، وإلا كانت وسائلنا كوسائل غيرنا في الحرص على السلطة والاحتفاظ بها وتسخير مقدرات الأمة كلها مهما كلَّفنا ذلك، ثم تقسيم الأدوار والمكتسبات على أصحاب المصلحة في بقاء الحكم ضماناً لبقائهم واستمراراً لولائهم، ومحافظةً على أنفسهم ثم الحرص على الاستمرار بكل الوسائل محافظةً على المكتسبات وليست الغايات التي عمل الناس لأجلها وجاهدوا في سبيلها، وذلك بسند ممن يجهزون الفتاوى والمبررات الشرعية لكل عمل أو قول أو فعل ولو كان بتطويع النصوص وتأويل المقاصد الشرعية، والتجديد في التفسير بما لم يدركه الأوائل أو يفهموه كما هو الواقع الذي نعيشه الآن. الحكم في المنظور الإسلامي أمانة ومسؤولية يتحمَّلها القادر على الحمل في الدنيا والمواجهة والمساءلة في الآخرة، وينأى عنها العاجز والخائف من تبعاتها في الدنيا والآخرة «إنّها أمانة وإنّها يوم القيامة خزي وندامة» وما سمعنا أن أحداً كُلِّف بأمرٍ فيه مسؤولية على كثرة من كُلِّفوا اعتذر بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي ذر الذي أشفق على أبي ذر من المسؤولية لضعفه وعدم قدرته مع أنّ إمكانات أبي ذر قياساً على النماذج التي بين يدينا والتي تتقلّد المسؤوليات الجسيمة أقول إنّ إمكاناته كانت تسمح له بقيادة أمة مثلنا، وشعوب مثل شعوبنا ولكن.. إنَّ هاجس المسلم دائماً هو تغيير الواقع لا الرضا به أو الاستسلام له، وتغيير الوجوه دون إعطائها صفة القداسة والديمومة، حيث إنّ الكثيرين يدعون إلى التغيير والتجديد في الدماء والمواقع والأدوار شريطة ألا يخضعوا هم ومن يلونهم للمتغيرات والمستجدات؛ فالزمن يتجاوز الآخرين ولكنه يقف عندهم، الأمر الذي يحرم الأمة من تجديد دمائها وأدمغتها ووجوهها، بل يحبط مظاهر الإبداع والابتكار فيها، ويكرس الإخفاق في الواقع ويفلسف الفشل والإحباط، وإذا أُعطيت بعض الفرص للشباب فإنّها تُعطى لمن ينفذون رغبات الكبار؛ لأنها تمثل بالنسبة لهم تجارب عظيمة وخبرات لن يصلوا إليها مع أن مستقبلهم يبشر بتجارب وخبرات وأعمال لم يحلم بها الكبار فضلاً عن معايشتها.