بينما كنت أشاهد برنامج «عزيزي المشاهد» وهو يكرم فتية التلفزيون القومي الذين كانوا في الخطوط الأمامية في هجليج، ظننت أن تلفازنا المحروس قد تعافى، وبلغت به الهمة والجرأة التوغل في الأحراش. وخلفيتي عن التلفزيون وما يعانيه جعلتني أتلمس القصة، فالبحث والتحقيق والتحري جعلني أسرد القصة بالعربى الواضح والفصيح، كما يلي: بعد يومين من سقوط هجليج تدافع كل أهل السودان وأولي العزم منهم لنصرة الحق وإزهاق الباطل بتحرير هجليج .. على الفور حددت قبيلة الاعلاميين موقفها ورمت بفلذات أكبادها من «أبناء ساحات الفداء والإعلام العسكري» فهم لا ينتظرون شكراً من أحد ولا يضربون «بروجي» ليجمعوا الناس حولهم، ليتغزلوا فيهم مدحاً وتصفيقاً لأن هذا هو واجبهم . ففي اليوم التالي خرجت فكرة من بعض الشباب.. تلقفتها آذان أخرى، فألقت عليها قميصاً آخر وصبغته بلونها، وعلى عجل طار الجمل بما حمل متجها إلى الخطوط الخلفية في المجلد، وظل ينتظر ما تجود به كاميرات الشباب المراسلين الحربيين «خالد المقبول، معتصم عبد القادر، محمد الناجي، محمد إبراهيم». وبشغف شديد يسيل له اللعاب يتلقفون الصور وعبر الأثير يرسلونها الى استديوهات التلفزيون الرئيسة ليعاد تغليفها بشكل جديد، بل تزويرها والتوقيع عليها بعبارة «تنقل لكم كاميرا التلفزيون ومن الخطوط الأمامية آخر التطورات في أحداث معارك هجليج»، وتتكرر نفس العبارة حتى تم تحرير هجليج. وكان من يصنعون هذا الحدث يصورون أنفسهم لغيرهم بأنهم كابدوا وتعبوا وغبروا أرجلهم، وتنقلوا يمنة ويسرة وأماما وخلفاً، وهم يضغطون على زر الكاميرا لتصوير كل شيء حولهم. لكنهم لم يفعلوا ذلك أبداً.. بل هضموا وسلبوا حقوق شباب كانوا يفترشون الأرض ويتوسدون قطع الكرتون، ويعيشون أيامهم تحت هدير الدانات والمدافع.. يقطعون الفيافي ويتجولون بين جثث الخوارج.. ليأتوا بالصورة التي تتحول ما بين ليلة وضحاها إلى أوسمة وأنواط لآخرين جاءتهم «باردة» في أماكنهم. أفق قبل الأخير: سنعود للإذاعة في الأسبوع القادم، ونكمل ما انقطع من حديث حول الأرشفة الالكترونية. أفق أخير: قتل المعنويات أشد بآساً من قتل النفس.