داهمتني بالأمس ومنذ الصباح عدد من الاتصالات مدحاً وذماً على تراسيم «مملكة الطيب مصطفى».. بين هذه الاتصالات.. ألحّ أحدهم في الاتصال.. نظرت إلى الرقم وتلفت أبحث عن شرطي المرور..المتصل كان من مكتب الوزيرة سناء حمد العوض.. حمل إليَّ الرجل دعوة إلى زيارة هجليج.. كان الزمن الذي يفصلني عن الدعوة أربعين دقيقة.. لم أتردد واتخذت قرار زيارة المدينة التي حررتها القوات المسلحة الباسلة.. ذهبت إلى المطار مباشرة لأكون شاهد عيان شاف كل حاجة. قبل عامين زرت هذه المدينة ضمن وفد من شركة النيل الكبرى للبترول.. بعد أن نزلنا في مطارها الصغير كتب علينا أن نطوف على كل الآبار المنتجة عبر طوافة صغيرة.. لفت نظري وقتها كيف أن المدينة قد ظهرت عليها نعمة النفط.. السهول الخضراء تفيض خضرة وماء سلسبيلاً.. البترول وقتها جذب كل الدنيا إلى هجليج.. ترى بين الحشود هنود وصينيين وسودانيين من كل الأطياف. عندما هبطت طائرة الفوكرز هذه المرة وجدت مدينة أخرى.. أطلال شاحبة وبقايا مدينة تفحم كثير من أجزائها..المهندسون السودانيون انكبوا على عملهم لإعادة الحياة للبلدة التي حاول قتلها الأعداء.. رجال الجيش وكتائب الدفاع الشعبي معنوياتهم عالية وفي عيونهم بعض الأرق.. المعركة لم تكن يسيرة.. كان عليهم أن يقاتلوا وقلبهم على المنشآت النفطية.. استخدموا إستراتيجية الالتحام مع العدو.. إستراتيجية تشبه أن تسبح في الماء وملابسك أعلى رأسك لا تريد لها أن تبتل.. رغم كلفتها الباهظة إلا أن نتائجها كانت عظيمة.. تم تحرير هجليج دون أن تخطيء رصاصة وجهتها وتصيب مشروعاً تنموياً. رأيت كيف خرب العدو المدينة.. كان يختار بعناية فائقة أنبوب النفط الرئيسي ويصيبه بعاهة.. محطة الكهربا ء وأختها وحدة المعالجة النفطية مسها الضرر البالغ..المخازن المركزية التي تحوي قطع الغيار تم حرقها بالكامل.. حاولوا أن ينالوا من صهاريج النفط الضخمة والتي تحوي في جوفها نحو ثلاثمائة ألف برميل من الزيت المعد للصادر ولم يفلحوا لأنها كانت مصممة لمثل هذه التوقعات. السؤال الذي كان يجول بخاطري لماذا أشعلت الحركة الشعبية كل هذا الحريق.. وحتى لا تتهموني بحسن الظن في حكومة الجنوب..المفاجأة أن كل المنشآت المحروقة يفترض أن تنقل نفط الجنوب إلى مؤانئ التصدير حينما تتيسر الأمور.. إن كانت الحركة بقراراها وقف ضخ النفط في أنابيب الصادر أطلقت رصاصة على قدمها كما عبر زميلنا الأستاذ عثمان ميرغني.. هذه المرة وجهت رصاصتها إلى قلبها مباشرة. بعد عودتي إلى الخرطوم آمناً مطمئناً ًشعرت أن الجيش الذي يقاتل في تلك الأحراش يستحق مزيداً من المؤازرة.. مطلوب من جميع قادتنا أن يغبروا أقدامهم في سبيل الوطن ويزورا أولئك الرجال في خنادقهم الأمامية.. الأمم المحترمة تحترم جيوشها على الدوام.. يزداد التعاطف حينما يكون هؤلاء الرجال في خط المواجهة مع العدو. مطلوب منا في هذه المرحلة ممارسة نقد الحكومة بحذر حتى لا تطال نيران نقدنا من الروح المعنوية لجنودنا البواسل.. ومطلوب أيضاً من الحكومة ألاّ تخلط الكيمان وترى في شعار المحاسبة دعم مباشر للعدو. المحاسبة تجعل جيشنا عالياً لا يعلو عليه.