كان من بين المجاهدين شاب هادئ الملامح، اسمر البشرة، أُصيبت إحدى عينيه في معارك سابقة ووُضعت له أخرى صناعية في مكانها، يلتقيك بوجه طلق كأنما هو نسيم الصباح الأغر، له صوت كما البلبل المغرد ان هو انشد، وقيثارة تشنف اذنيك، وتسلب فكرك إن تلا عليك كلمات ربي، ابتسامته لا تفارق وجهه ومصحفه لا يغادر كفه الا لماماً، أتاني في ايامنا الاولى وسلم عليَ بوجه باشٍ قائلاً في هدوء وبساطة: «دعنا نتعرف ببعضنا.. اسمي ابو القاسم احمد عيدروس..».. كان ابو القاسم مهندس فكرة مدرسة الإعداد التي وُلدت في «وادي الحيرة»، والتي خرّجت لاحقاً العديد من الشهداء، فقد وضع منهجاً لتحفيظ القرآن والتجويد، ومحاضرات في السيرة والفقه، ومدارس لمحو الأمية بين أفراد القوات المشاركة في المتحرك.. اجتهد ابو القاسم كثيراً في وضع منهج تربوي لمحو الأمية وتعليم القرآن للأميين، وكان على غزارة علمه يتواضع في حديثه إلى تلامذته، فيزدادون له إجلالاً وتوقيراً، وذلك أنه يعتقد أن بينهم انقياء اتقياء، وهم يتهيبون صاحب القرآن وروح الأنقياء فيه، فكان كلما تواضع لهم ازداد مكانة ورفعة عندهم بذلك.. كان ابو القاسم يجتهد في حفظ القرآن الكريم كاملاً وهو المتقن لعلومه، فقد حباه الله بحفيظة قلما تجد مثلها اذ انه يستطيع ان يحفظ ربع الحزب من القرآن في ساعة واحدة او يزيد، ولكنه كان لا يتعجل ذلك اقتداءً بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا حفظ قرأ في التفاسير حتى يفهم تأويل الآيات وبيانها.. جاء أحد الإخوة في يوم ليبشرنا بأنه رأى رؤية منامية مفادها أن جمعنا قد جلس في إحدى حلقات الذكر فوقف الشهيد معاوية آدم «ابو تراب» وهو من احب المجاهدين لأبو القاسم ليقول للناس هذه مجموعة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستبشر الناس بهذه الرؤيا وأخذ كل واحد يسأل إن كان هو فيها ويجيب صاحبها بنعم، وحينما تكرر السؤال قال «رأيت الجميع ماعدا ابو القاسم..»، فشق ذلك على ابو القاسم وطأطأ رأسه قليلاً وشق علينا ما شق عليه، الا انه استدرك سريعاً «ايهما اعلى مكانة المحب لرسول الله ام الهائم بحب الله تعالى..». كان كثيراً مايحدثني عن حبه لمعلمه الشيخ البروفيسور احمد علي الإمام، وكان دوماً يوصيني بأن اسعى إلى أخذ العلم عنه إن استطعت إلى ذلك سبيلا، وعندما تيسرت لي السبل والتقيت مولانا احمد علي الإمام أخبرته بذلك فقال لي «رحمه الله كان ولياً تقياً خفياً». كان يحدثني كثيراً عن أمنيته في الشهادة قائلاً: «اتمنى ان اكمل حفظ القرآن، ثم أُصاب في مكان السجود من جبهتي فيسيل دمي على وجهي، فأسجد شكراً لله لتفيض روحي وأنا على هذا الحال..»، وقد علمت أنه أكمل حفظ القرآن قبل اسبوعين من استشهاده، وكان استشهاده كما تمنّى.. ---------------- أحرف مضيئة في حضرة الشهيد النور سطرها: إبراهيم الحوري اشتدت المعركة وحمي الوطيس وأقبل الجيش الشعبي زرافات ووحداناً يمنّي نفسه بنصر سهل واحتلال أسهل لهجليج ليصيب اقتصاد السودان في مقتل ويطلق الرصاصة الأخيرة على جمهورية السودان ويضيف الى العالم دولة فاشلة أخرى. دولة بلا جيش ولا اقتصاد ولا حكومة فيكتمل المخطط وتعيث أمريكا وربيبتها فساداً في الأرض، فما كان من شهيدنا النقيب النور ابراهيم محمود الا أن انطلق لا يأبه بكثافة النيران ولا كثرة الأعداء، وضع نصب عينه دينه الذي كان دائماً يحمل همه ويذكِّر الناس به يدعوهم في لين ويأخذهم إليه في قوة، يقيم الصلاة وينادي بقيام التطوع.. حريص كل الحرص أن لا ينحرف عن الطريق أحد.. نجده في كل المناسبات والملمات.. هو من يقوم بخدمة الناس وتجهيز كل مستلزماتهم.. نجده في الدورات هو من يقوم بهذه الخدمة لكل الناس.. نذر نفسه أن يكون خادماً للجميع بلا استثناء ولا يحفل بصعوبة المهمة ولا يأبه للتعب.. كم كنت عظيماً في كل شيء.. وضع أمامه السودان الوطن الذي تكالبت عليه الأمم وحاربته وجعلته يدور في دائرة الحروب التي تكاد تكون لا تعرف نهاية السودان الذي مافتئت المؤامرات تحاك ضده اليوم، كل ذلك شكل دافعاً إضافياً للنور وصحبه.. دافعاً قوياً للاستماتة والوقوف بقوة وصلابة برغم أنه كعسكري قد أدرك أن كفة الميزان لا تميل لصالحه لكنه أقسم قسماً مغلظاً على حماية الدين والأرض والعرض.. ويعرف بفطرته عاقبة التولي يوم الزحف.. لذا قاتل بضراوة وحارب بشجاعة أذاقت العدو كأس الموت الزؤام حتى أصيب في يده ورجله، رفض الإخلاء إلى الخلف لأن الموقف لا يحتمل وحتى لا يؤثر في معنويات الجند فكان أنموذجاً للثبات والتماسك والصبر. برغم كل ذلك استمر في القتال والدفاع عن مكتسبات الأمة. حتى امتطى ظهر رصاصة نحسب أنها أرسلته الى جنات الخلد ليكون مع الصديقين والنبيين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. أخي الحبيب يشهد لك الجميع أنك كنت فينا مرجوًا وكنت أخاً للكل ومحبوباً في الأرض فأحبك من في السماء واصطفاك شهيداً واصطفى دفعتك من بواسل القوات المسلحة، فكان نبأ الاستشهاد عظيماً ليس على دفعتك فحسب بل على قريتك الفعج البشير التي خرجت على بكرة أبيها وهي فخورة بك. كنتم وكنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً اليكم ولا جفت مآقينا نكاد حين تناديهم ضمائرنا يقضي علينا الاسى لولا تأسينا أن كان عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا أخي الحبيب ستظل في وجداننا ما حيينا تستعصي على رياح النسيان الباردة.. ستظل جذوة ذكراك للأبد في دواخلنا.. كيف ننساك وأنت من قدم روحه للوطن فصار رمز الصمود والبسالة. أخي الحبيب العظائم لا تحتاج إلى تصحيح العبارات ولا غبار التصريحات فهي تحدِّث عن نفسها بقيم العطاء أزهى فالبطولات لا تضيع في سراديق إنسان السودان العاشق بطبعه للأمجاد. فبنو جلدتنا مغرمون بعشق صادق يفوق خيال الناس بالشجاعة والشجعان يعبِّرون عن ذلك في مجالسهم ومنتدياتهم، لذلك كان لهجليج في ذاكرة الوطن مسافة كبرى جدّدت فيهم النخوة والرجولة ومعاني الفداء.