بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    الخطوة التالية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد..أجرى الحوار/ علي الديري وفاضل عنان
نشر في حريات يوم 18 - 03 - 2012


أجرى الحوار/ علي الديري وفاضل عنان..
أجري الحوار في حياة المفكر السوداني الكبير رحمة الله عليه وينشر مرة اخرى بتاريخ اليوم
علي الديري: بودنا أن تسرد لنا أهم المحطات في سيرتك الفكرية.
بدأت سيرتي الفكرية عام 1964م بإصدار أول دراسة لي بعنوان (الوجود القومي) لأننا في السودان بالذات نعيش مشكلة بين عروبيتنا وأفريقيتنا والتنوع والتعدد ، فكانت الهوية شاغل أساسي بالنسبة لي , لذا كانت أول دراساتي عن الوجود القومي, وكنت أرى فيها التدامج الأفريقي والعربي على حد سواء, مع اعتباري أن العروبة في السودان هي “ثقافة” وليست “حضارة”, لأن عروبة السودان بدأت بظروف انهيار الأندلس وحكم المماليك في مصر فلم يكن هناك الكثير الذي يعطى لتجربة جديدة تمتد في أفريقيا منذ القرن السادس عشر. فأول كيان عربي إسلامي قام في شمال السودان عام 1505م.
بعد ذلك و نتيجة لارتباطاتي النضالية أصدرت عن دار الطليعة في بيروت دراسة صغيرة، في حجم الكراسة حول “الثورة والثورة المضادة في السودان” عام 1970م، ثم عام 1974م كتبت كتاب “الأبعاد الكونية لمعركة إرتريا” وصدر عن دار الطليعة أيضاً في بيروت.
أما الإنجاز الموسوعي الأكاديمي الحقيقي، فهو البحث في جدلية الغيب والإنسان والطبيعة. القضايا الثلاث التي كانت تؤرقني هي:
أولاً: الطبيعة بقانونها الجبري الذي لا يحتمل أي تأويلات، فقانون الجاذبية يعني أن كل شيء يسقط يقع على الأرض. ومن جبرية القانون الطبيعي استمد الفكر “الوضعي” فلسفته على يد (أوجست كونت – 1798/1857) نافياً الفكر اللاهوتي ومن بعده الفكر الميتافيزيقي وصولاً إلى “كارل ماركس” – 1818/1883) وشريكه “فريدريك انجلز” – 1820/1895) اللذان انتهيا إلى صياغة الفكر الوضعي بمنطق مادي جدلي ، ركبا على أساسه فلسفة الإنسان والتاريخ والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية وانتهاء إلى “ماكس فيبر” – 1864/1920 و “إميل دوركهايم” – 1858/1917).
ثانياً: هناك الرؤية الغيبية للكون والإنسان وهي الرؤية الدينية حيث تتجاوز قدرات الخالق – سبحانه – وإرادته كل جبريات القوانين الطبيعية وحتمياتها محدثة بذلك “قطيعة” مع الرؤية “الوضعية”.
ثالثا”: ثم هناك الإنسان بمنطقه “الوجودي” المميّز خارج المنطق الوضعي والمنطق الغيبي بداية من “مارتن هيد جر” – 1889 وإلى “جان بول سارتر” – 1905.
بدا لي أن الإنسان يعيش منطقة “تجاذب” بين جبريتين ، غيبية دينية ، ووضعية مادية.
وبما أني “مسلم” أستند إلى النص القرآني باعتباره وحياً مطلقاً يعادل الوجود الكوني وحركته.
وبما أن رؤيتي لإشكاليات الفكر رؤية منهجية نقدية وتحليلية لا تمكنني من المقاربات التوفيقية والتلفيقية، ركزت جهدي لكي أرى أين تكمن المشكلة الفلسفية؟ فهناك غيب إلهي “مطلق” وهناك طبيعة “مطلقة” أيضاً بقوانينها في كون لا متناه في الصغر ولا متناه في الكبر وهناك إنسان “مطلق” لا متناه في نزوعه وإرادته وتكوينه.
ومع ذلك يعيش هذا الإنسان بين توهم إستلابين (غيبي ووضعي) مع أن الإنسان مطلق في حد ذاته.
فالإنسان كائن مطلق وأؤمن أن قوانين الطبيعة مطلقة، وأؤمن أن الغيب مطلق، فكيف يمكنني الربط بين هذه المطلقات الثلاث في كلٍّ واحد.
هذه القضية كانت مثار إشكالية ضخمه جداً في تفكيري إلى أن تم اجتياز الاختبار الفلسفي الصعب للربط جدليّاً بين المطلقات الثلاث (الغيب والإنسان والطبيعة) وذلك بموجب “قراءة كونية موحدة” تتجاوز اللاهوت والوضعية معاً مصدرها سورة (العلق) وهي (الجمع بين القراءتين) وترتبط هذه القراءة بأدوات منهجية ومعرفية معاصرة (أبستمولوجية) وليست تراثية ، حيث تتحول بالنص القرآني من “التفسير التاريخياني” إلى “التحليل الأبستمولوجي” ومن الألسنة البلاغية إلى الألسنية الدلالية المصطلحية.
بهذه الأدوات مجتمعة وكلها معاصرة تم تجريد الدين من النسيج اللاهوتي الذي هيمن عليه فكرياً وتاريخياً وتراثياً. وتم تجريد الفهم لقوانين الطبيعة من الجبرية المادية دون استلابها غيبياً. وتم تجريد الإنسان من النزعة الوجودية العبثية دون استلابه وضعياً أو لاهوتياً. وتبلورت هذه الرؤية الكونية الأبستمولوجية إلى أن خرج المجلدان في ألف وسبع وعشرين صفحة من القطع المتوسطة. وحظي الكتاب باهتمام (المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن) حيث عملت لفترة مستشاراً علمياً لهذا المعهد، وحظي بنفس الاهتمام في (جامعة ماليزيا العالمية الإسلامية)، ولدى جمعيات من الشباب المثقفين في الجزائر (جمعية الترقي الاجتماعي – بسكرة) وفي اليمن (شباب الصحوة)، وحظي باهتمام في جامعة تونس فقد حصل أحد الشباب على شهادة الدكتوراه فيه من الدرجة الثالثة، وآخر حصل على الماجستير فيه من جامعة ماليزيا, وأيضاً تم تبنيه في فلسطين من قبل الأخوة المستنيرين دينياً، وطبعوا منه أعدادا في الأرض المقدسة. ثم أنه قد سبق تدريسه في جامعة القاهرة للدراسات العليا على يد الدكتورة (منى أبو الفضل).
هذا من ناحية وفي الجانب الآخر، أنا أؤمن بالآتي:
أنا أرفض منهج التنظير دون الارتباط بالواقع وأقول إذا لم يكن هناك واقع يدفعك للتفكير وحلّ أزماته ومشاكله ومعايشته، فالتنظير يبقى في فضاء خارج واقع الإنسان فأنا أقول دائما: هل الواقع بحاجة إلى تنظير يرتبط بإشكاليات معينه أم لا ؟
أما التنظير كترف فكري لا أميل إليه، كما لا أميل إلى قضايا الوعظ، ولهذا السبب كتبي تسير في خطين.
- أولاً: كتب في النظرية مثال جدلية الغيب والإنسان والطبيعة.
وهي رؤية كونية توحيدية في النهاية ولكن بأسلوب ابستمولوجي معرفي وليس بأسلوب تراثي, وليس بأسلوب ايديولوجي. وأضع حدوداً بين ما أطرحه “وتاريخانية” إنتاج الأفكار التراثية ولا أعتبر هنا السنة النبوية إنتاجاً تراثياً، فالسنة النبوية أعتبرها موازية ومرتبطة بالقرآن أما ما عدا ذلك فهو إنتاج تاريخي مرتبط ببيئته، فدائماً أميز بين هذا التنظير وارتباط هذا التنظير بواقع معين له قضاياه الخاصة.
- وثانياً: كتب تطبيقية حيث درست في كتاب (السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل) والمكون من (1375صفحة) التركيبة السودانية من 750 قبل الميلاد إلى عام 1996م.
وقد اتخذ هذا الكتاب مرجعا لدى العديد من الجامعات السودانية ولدى بعض المختصين بالدراسات الأفريقية، وللأسف بقي هذا الكتاب خارج إطار الوطن العربي والمؤسسات الاكاديمية العربية، ربما لسببين أولا إن الاكاديميات العربية لا تبدي اهتماماً مركزاً بالسودان، فيكتفون ببعض الدراسات التي كتبت عن السودان بإقلام عربية ولا ينفذون إلى الكتابات التي يكتبها السودانيون أنفسهم، ولذلك حظّ هذا الكتاب من الانتشار هو محدود على مستوى الجامعات العربية، ولكنه منتشر في الجامعات السودانية ويعتبر أحد المراجع الاساسية عند الشباب سواء على مستوى الماجستير أو على مستوى الدكتوراة.
علي الديري: في مشروعك الأساسي جدلية الغيب والطبيعة والإنسان رفضت المقاربات ورفضت المقارنات ورفضت الأيديولوجيات بوصفها أطراً مرجعياً في قراءة النص الديني أو في قراءة الإسلام، وتبنيت منهج ابستمولوجي معرفي صارم في فهم نموذج المعرفة الذي يقوم عليه النص القرآني. هذه التجربة المعرفية الصارمة كما طرحتها أنت في نهاية السبعينيات، كيف تقيمها الآن في ضوء المراجعات الحديثة لمفهوم صلابة مفاهيم العلوم الإنسانية؟
المشروع بدأ منذ 1975م وصدر في 1979م. القضية التي أنطلق منها في البداية وقبل أن أعالج النصوص، هي قضية ذات منهج نقدي ابتسمولوجي.أي قبل ظهور مجلدي (العالمية الإسلامية الثانية- جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) وأنا أنطلق من التساؤلات. في عام 1975م والتي تكاد تكون محرجة للغاية ولكنها كانت مدخلاً، كنت في بيروت أرى قصف الطائرات لمخيمات فلسطين واحتراق الأطفال. وقتها كنت أتساءل عن رحمة الله سبحانه وتعالى، وعن أساسيات التجربة البشرية في الوجود المعرّضة للنكبات و الفيضانات والسيول والظلم الاجتماعي.
عدم التوافق مع الطبيعة كأنها ثائرة ضد الإنسان والإنسان ثائر ضد نفسه، فأين الوجود الحقيقي لله في إدارته للكون بهذه المواصفات؟! وذلك مع التزامي الإيماني ؟!
في هذه الاشكاليات كانت الأسئلة في حد ذاتها غير ايديولوجية بالمعنى التراثي الذي يفرض على الفكر الانضباط ضمن سقف معين، يعتبرونه التأدب والإيمان… لا أريد أن أكفر، فأنا مؤمن من أول ما ولدت وما زلت مؤمنا ولا أشك في وجود الله والحمد لله ولكن لدي ما أطرحه، وأريد إجابة عليه.
المدخل منذ البداية كان مدخلا معرفيا بالمعنى الابستمولوجي الرافض للايديولوجيا, ولم أكن أتوقف لدى “قدسيّة” إجابات التراث، وأكرر وأشدد على نقطة لا أعتبر أقوال وأفعال الرسول في السنة جزءاً من التراث، أعتبرها أكثر ارتباطاً بالوحي الإلهي، فهناك موازنة أعتمدها منذ البداية بالنسبة للقرآن هنالك:
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80) – الواقعة / ج 27.
وبالنسبة للسنة النبوية المطهرة:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5) – النجم / ج 27.
فالقرآن والسنة النبوية منضبطان كمواقع النجوم ولا تناسخ بينهما أما ما يأتي بعد ذلك فأنظر إليه برؤية نقدية أتجاوز فيه العرف النفسي والتاريخي للمقدس، هذا أسلوبي قبل أن أتوصل للنتائج التي أطرحها.. هذه مسيرة سنوات.
علي الديري: أنت تشتغل ابتسمولوجيا في فترة كان العالم منشغلا ايديولوجيا. كيف تعاملت مع هذا الكم المتراكم من الايديولوجيات؟
أنا ابن ثورة يموت فيها الآلف، وابن مأساة، فأنا أفهم الدين من جانب المأساة القائمة في الوجود، وليس من زاوية البحث عن الخلاص في الآخرة. لم يكن يهمني الحصول على شيخ يدلني على الخلاص في الآخرة. كان يهمّني كيفية الخلاص في الدنيا من هذه المأساة التي نعيشها، وما هو مدى ارتباط هذه المأساة بالقدر الإلهيّ الذي نسميه “الابتلاء”؟! هذه القضايا كنت أرى إنها جديرة بالبحث والمناقشة لا عن كفر ولا عن شكّ في المعتقد وإنما عن محاولة فهم. محاولة فهمي منذ البداية نقدية، وليست تشكيكية، وقد لاحظت في كثير من التجارب الدينية التاريخية التي مرت، أن الناس لا يستجيبون “عفوياً” للوحي ولا للمصلحين ولا للفلسفة.
فنوح أقلع بفلكه وغمر الطوفان الآخرين، وهود خرج من قومه عاد وأهلكوا، وصالح خرج من ثمود وأهلكوا. تجربتان فقط كانتا استثنائيتين، تجربة بني اسرائيل وتجربة الأميين العرب تحقق فيهما نصر ولكن “بتدخل إلهي”، لأن الله قال في الأميين العرب:
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63) – الأنفال / ج 10.
فتدخل الله وألف بين قلوبهم وتدخل الله بملائكته في بدر.
وبنوا إسرائيل رفضوا موسى:
قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(24) – المائدة / ج 6.
رفض كامل. حتى أنهم من بعد أن أخرجهم الله من مصر بخوارق معجزاته عبدوا العجل وتدخل الله – سبحانه – وفرض عليهم دخول الأرض المقدسة.
وكذلك حركات الاصلاح في العالم ، فحتى حركات الاصلاح التي جاءت نتيجة التراكمات الثورية, كالثورة الفرنسية سرعان ما انقلبت على نفسها وأكلت بنيها ، بل أن الدين المسيحي التوحيدي في أصله سرعان ما تحول إلى تثليث “لاهوتي” – بمعنى الله والابن والروح القدس – وأكبر حضارة في العالم الآن تعتقد أن المسيح هو ابن الله أو هو الله سبحانه وتعالى بالرغم من الأدوات النقدية في الحضارة الغربية. والذين أرادوا التصحيح من داخل المسيحية اضطهدوا، فاضطر العقل النقدي أن يعيش خارج الاطار المسيحي.
أما اليهودية فمن بعد اقتحام وتزييف مفهوم “الشعب المختار” فقد تحولت إلى أكبر عنصرية صهيونية في التاريخ. استدارة كاملة على العبودية لله. والسؤال أيضاً: هل المسلمون مبرأون؟ هل استداروا كاستدارة المسيحية واليهودية؟ الحمد لله ما زالوا موحّدين ولم يقولوا محمد(r) ابن الله وانه الله ولا زالوا إلى اليوم على توحيديّتهم لله وهذا خير كبير, لكن هناك تزييفات عديدة.
فمن ناحية أولى فإن الدين الذي هو للناس كافة, الدين العالمي_ والعالمية تعني التعددية واحترام التعددية_ قد انغلق وأصبح “آحادياً” في كثير من الممارسات . هذه استدارة كاملة. حتى أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يرد على الذين يكفّرون بعضهم بعضاً من المسلمين يقول:
وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113) – البقرة / ج 1.
بمعنى أن الذين “لا يعلمون” يقولون اليهود ليست على شيء ويقولون النصارى ليست على شيء فيما يقول الله سبحانه وتعالى: لا. هم على شيء، فالله سبحانه وتعالى الذي أطلق للإسلام عالميته جعل منظوره للآخرين منظور التفاعل والانفتاح عليهم بحرية في حين أن المسلمين استداروا بالدين فجعلوه آحادياً. هذه ناحية في الاستدارة.
الناحية الثانية الإسلام كخاتم رسالات ونبوّات يقوم على الرحمة، القرآن ليس كتاب “عهد وميثاق وقانون” والعهد والقانون فرض على بني اسرائيل لأن الله سبحانه وتعالى تدخل بمعجزات خارقة (حسية ومرئية) غير معجزات الإسلام (الغيبية) وأخرجهم بشقّ البحر وأنزل عليهم المنّ والسلوى وأشياء كثيرة معروفة, في كل الخوارق التي تبعت ظهور اليهودية ,لذلك كانت علاقتهم مع الله في “الأرض المقدسة” التي ارتبطت بها والتي تقوم على “شرعة الأصر والأغلال” و “الحاكمية الإلهية” فماذا فعل المسلمون؟ قد بنوا علاقاتهم على شرعة الأصر والأغلال ذاتها دون أن تتوافر لهم خوارق المعجزات ، وأصلوا قولاً غير صادق حين قالوا أن شرعة من قبلنا شرعة لنا. فلماذا بعث الله محمد (r) إذن ؟! سؤال جوهري لابد من التوقف عنده.
ثم الناحية الثالثة ، هذا الذي يقولونه عن “الحاكمية الإلهية” الله سبحانه وتعالى حين أنزل القرآن كآخر الكتب ولم يجعل النبوات بعد محمد وهو خاتم الأنبياء جعل “الحاكميّة للكتاب” الذي يتم تناوله بالعقل والفهم, أما الحاكمية الإلهية فقد فرضت على بني اسرائيل ولذلك شقّ لهم البحر. في حين أن الأحزاب حين هاجمت المدينة المنورة لم يشقّ الله لهم الخندق ، شقه المسلمون بعرق جبينهم, وحين عطشوا وبحثوا عن الماء بما فيهم سيدنا محمد نفسه لم تأته الينابيع كما حدث لموسى:
وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60) – البقرة / ج 1.
قد ختمت الخوارق وختمت النبوة فليس هناك أنبياء يتلقون الحاكمية الإلهية كما كانت عند بني اسرائبل . كذلك لما جاء المودودي وسيد قطب بالحاكمية الإلهية كانا لا يدركان بحكم العقلية الايديولوجية.._ وهنا الخطورة_ الفارق المنهجي الابتسمولوجي ما بين “الحاكمية الإلهّية” المطبقة في عهد موسى وما بين حاكمية أخرى هي “حاكمية الاستخلاف” على عهد داود وسليمان ثم “حاكمية الكتاب” الإسلامية. كثيرون الآن يقولون نحن مستخلفون عن الله.. طيب أين هي الجنّ المسخرة لكم كما سخرت لسليمان ؟! أين هي الأسباب المسخرة لكم كما سخرت لذي القرنين ؟!.. لأن الاستخلاف من الله يتطلب “تفويضاً” من الله للمستخلف في قوة موضوعية ظاهرة, وبدون هذه القوة الموضوعية الظاهرة لا يكون هناك استخلاف. فالمستخلف يستمد “صلاحياته” ممن استخلفه. لذلك الله سبحانه وتعالى حينما يتحدث عن الجنّ وعن الطّير وعن النّمل, ويربط ذلك بسليمان وداوود ويربط ذلك باستخلافهما فالأمر هنا ليس من قبيل الأساطير والخرافات كما مضى لذلك نقاد الفكر الديني وإنما ليوضح للناس أن هذا النهج غير نهجكم, وكذلك حينما يشق البحر لموسى ولا يشق الخندق لمحمد ليوضح للناس أن تلك حاكمية إلهية تختلف عن نهجكم ,وبينها الله في سورة المائدة:
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48) وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ(49)أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50) – المائدة / ج 6.
لم يقل لكل جعلنا شرعة ومنهاجاً وإنما “جعلنا منكم”وكذلك ليس جعلنا لكم فحجة “حكم الجاهلية” تنطبق على اليهود في المدينة الذين رفضوا منهج الشرعة الإسلامية وأرادوا مساومة الرسول على شرعتهم ، أي شرعة الأصر والأغلال ، في حين يظن كثير من المسلمين أن هذه الآية تشير إلى المسلمين ولكن لا علاقة لها بهم. فحكم الجاهلية هو ما ابتغاه اليهود وليس المسلمين.
فهناك قضايا ابتسمولوجيه لا يمكن تفكيكها وفهمها إلاّ في الإطار المنهجي والمعرفي الشامل وهي قضايا معاصرة وتهمّ المجتمع الإسلامي. والآن وهي جوهر اشكالياته وجوهر اشكاليات الحركات الأصولية. الحركات الأصولية ليست نبتاً شيطانياً إنما هي قائمة على تراث ايديولوجي معوّج فالتصحيح ليس فقط أمنيا، التصحيح يكمن في التراث الايديولوجي، لبناء منهج معرفي ابتسمولوجي. من هنا إصراري . وقد طالبت بتغيير المناهج الدينية والتربوية منذ عام 1978 ولم أجد آذاناً صاغية حتى اليوم.
لماذا أتميز بهذا المنهج ؟
لأن هذا النهج ضروري لتفكيك الأفكار الذي هيمنت عليه الحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف وحكم الجاهلية وتكفير المجتمع المسلم وتم الابتعاد عن الأخذ من النص القرآني. وهذا تستتبعه قضية أخرى… كيف نعالج النص القرآني؟
النص القرآني مستلب بالبلاغة وعلم الكلام العربي دون النظر “للاستخدام الإلهي” للنص في القرآن. هناك فارق في الاستخدام الإلهي للغة حيث لا مترادف ولا مشترك وبين الاستخدام البلاغي البشري, فحيثما يكون مترادف ومشترك فهذه بلاغة العربي، بلاغة شعر، وبلاغة كلام. وكما تقول الآية:
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69) – يس / ج 23.
أما حينما ننظر إلى الاستخدام الإلهي للغة العربية وهذا ما توقفت عنده كثيراً, فهذا الاستخدام دلالي مصطلحي ألسني دقيق. أي استخدام “رياضي” بما حاولته معظم المدارس الألسنية المعاصرة لتوجد اللغة المثالية لعلم الرياضيات بالذات، فكيف أتعامل مع اللغة القرآنية ؟ ليس تعاملا ألسنيا فقط وإنما أتعامل معها قرآنياً كمصطلح. مع رفض أي مشترك أو مترادف وآخذ القرآن “ككتلة عضوية واحدة” دون الدخول في قضايا مكيّ ومدنيّ . لأني أعتبر أن إعادة ترتيب القرآن “وقفاً” في السنة الأخيرة من حياة الرسول وقبل عروجه للملأ الأعلى ، أن إعادة الترتيب الذي جعل الفاتحة في أول الكتاب وجعل المعوذتين في آخر الكتاب وجعل اليوم أكملت لكم دينكم آخر أية في الجزء السادس من سورة المائدة . هذا أعطى الكتاب “وحدة عضوية منهجية غير أسباب النزول”، ولذلك أعتمد على النص القرآني مرتبطاً من الفاتحة إلى المعوذتين ككتلة عضوية منهجية واحدة وأتعامل على هذ الأساس.
علي الديري: ما الجديد في هذه النظرة؟
في الفكر الإسلامي والاجتهاد البشري في القرآن مررنا بمراحل عديدة اعتمد في معظمها على ما أوضحه الدكتور محمد عابد الجابري بين عقل بياني وعقل برهاني وعقل عرفاني هذا الشكل الذي حكم تاريخانية الإنتاج الإنساني السابق إذا استثنينا “ابن رشد” في الفكر الموضوعي النقدي.حيث أن العلمانية الأوروبية التي تحيّد الدين ولا تلغيه من المجتمع قد تأسست على يد ابن رشد (1146/1198 م) وباستثناء ابن خلدون أيضاً (1332/1406 م) ومحاولة البحث في الأسباب الاجتماعية وليست السنن الطبيعية المدركة للناس, الأسباب الاجتماعية كانت هي الأصل في فهم التأثير الإنساني في الأحداث، العمران في الحقيقة شوه فكر ابن خلدون, إذ ارتبط الناس بما هو مادي، ولكن ابن خلدون كان يسعى لما هو أخطر ، وهذا أحد تلامذة ابن خلدون النجباء في البحرين الدكتور “محمد جابر الأنصاري” الذي أصبح خلدونيا ويبحث عن سلسلة خلدونية لخلاص الخليج… أعانه الله.
وهناك التصوف الذي فهم خطأ أيضاً، التصوف العقلاني العرفاني الفلسفي برؤية كونية للشيخ محي الدين ابن عربي(1165/1240) الذي دُسَ عليه الكثير. إذن هناك استثناءات لا أنكرها في تاريخنا حتى خارج المواصفات العينية الدارجة في العقلية البرهانية والعرفانية والبيانية ولكن دعني أقول لك.
بعضهم يظنني معتزلاً وقيلت لي هذه الكلمة من شيخ كبير في لبنان أثناء انعقاد مؤتمر الإسلام والمسلمين بعناية الشيخ رحمة الله محمد مهدي شمس الدين فضحكت. والبعض ربطني ببعض المدارس الأخرى وعادة ما أتذرع بالصمت. لماذا…؟
حين أطرح أن الإنسان مطلق كوني بنزوع لا متناهي. هذه العبارات تستفز معظم المتدينين أقلها بما يظنونه نقيضاً للآية:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا(86) – الإسراء / ج 15.
مع أن العلم المقصود هنا هو “علم الروح” وهو علم إلهي يرتبط بعالم “الأمر” ويتجاوز عالم “المشيئة” والظواهر المحسوسة. وهي قناة اتصال بالوحي والملأ الأعلى “وإن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك” ، فليس للروح علاقة بالحياة المحسوسة وحين يموت الإنسان فإنما تخرج “نفسه” وليس “روحه” كما تعتقد الأيديولوجيات التراثية في كل الأديان بتأثير الثقافة اليهودية/الإسرائيلية. وكذلك حول ما يثار من جبر واختيار في مقابل لا متناهي الإرادة الإنسانية وحريتها المطلقة.
هنا الكيفية التي أطرح فيها التطبيقات في المنهج المعرفي الابتسمولوجي للنص القرآني وأوضّح لك موقعي من هذه التيارات وليس من خلال التوصيف الخارجي ولذا أنا أعطيك ثلاث أبعاد.في التطبيق وفي المنهج.
أولاً: حينما يأتي القرآن لمعالجة الجبر والاختيار بالنسبة للإنسان يلجأ لأن يوضح لك “مطلقية تكوين الإنسان كونياً”. يقول لك:
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا(2)وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا(3)وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا(4)وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا(5)وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا(6) – الشمس / ج 30.
ثم يقول لك مباشرة بعد ذلك:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) – الشمس / ج 30.
باعتبار أن النتاج هو من تقابلات الحركة الكونية بشكل جدلي ,فالإنسان ضمن تركيبته القائمة أصلاً على ثنائية جدلية شمس وقمر وليل ونهار وسماء وأرض يمتلك القدرة التكوينية المجبولة فيه, بأن يكون حراً في اختياره, فحين تقرأ هذه السورة (الشمس) بالمنطق الإيديولوجي التراثي يقولون لك أن الله يقسم بما خلق… الآن القضية أكبر من ذلك. هنا القراءة الابتسمولوجية التي تخرجك من قراءة الجهميّة والمعتزلة. هنا الفرق الأساسي في القراءة الابتسمولوجية. لذلك لا يمكن مقارنتها مع مذهبيات وأفكار سابقة.
ثانياً: خذ هذه القراءة في قضية أخرى:
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20) – الغاشية / ج 30.
لا يقول أفلا يرون لأن “الرؤية” هي بالعين بل يقول( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) و “النظر” هو التفكر والتقدير… ولكن ما هو المقصود؟.. هنا “منطق قياسي مقارن” . (وإلى السماء كيف رفعت) “قوائم الإبل” (وإلى الأرض سطحت) “كخف الإبل” (وإلى الجبال كيف نصبت) “كسنان الإبل”. كل هذه الآيات تأتي في القياس المقارن. القضية أن المنهجية المعرفية تغدو بك إلى المنهج المقارن بهذه الصورة وليس بالرؤية فكلنا يرى الإبل صباح مساء. ما معنى ذلك؟..
ثالثاً: ثم حينما آتي إلى القضية العلمية الخاصة بالقوانين الطبيعية أنا أسميها في دراساتي “قوانين التشيؤ” في مقابل “قوانين الخلق” وفرق كبير في الفهم.
ففي “قانون التشيؤ الطبيعي” نجد ان عنصراً ما في الطبيعة حين يتفاعل بعنصر آخر يكون الناتج هو خلاصة العنصرين معاً. انتهينا إلى ذلك.
هذا قانون طبيعي عام فحينما تأتي باكسجين وهيدروجين يعطي ماء ولكن حينما يقول الله سبحانه وتعالى:
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(4) – الرعد / ج 13. يكون الناتج متنوعاً ومختلفاً بشكل لا نهائي بأكبر من طاقة وحجم القطع المتجاورات من الأرض والماء لماذا؟ لأن هنا “قانون الخلق الكوني” بأكبر من التشيؤ الطبيعي وأوجد “نخيل صنوان وغير صنوان وأعناب”. هنا ليس ثمة تدخل إلهي مباشر إنما جعل تفاعل القطع المتجاورات من التراب مع الماء الواحد حينما يقول تسقى بماء واحد “ضمن بيئة كونية” التفاعل هذا الذي أنتج التفاعل اللانهائي ، مركب كوني وليس مجرد مركب وضعي مادي أرضي مباشر. كذلك حينما يأتي الله بنقيض هذا القانون الطبيعي بشكل آخر:
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(12) – فاطر / ج 22.
هنا بحران ، فهذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ولكنّ الناتح من الاختلاف واحد. من كل تأكلون لحماً طرياً. في القانون الوضعي “التشيؤ” الذي أسميه في( فاطر) ينسف القانون الموجود في (الرعد).
لماذا نسف هذه القوانين في نفس البيئة الكونية؟.. لأن الله بهذا النسف ينسف مبدأ التحول في فلسفة العلوم الطبيعة إلى جدل مادي ، ويضعها ضمن بوتقة “التشيؤ الكوني” بنفس الكيفية التي خلقت بها النفس وفي تركبيتها. لذلك حين تأتي لمقارنة منهجية القرآن المعرفية مع الظاهرية ومع المعتزلة ومع العرفانية ومع ومع …. الخ ، تجد النسق يختلف والسياق يختلف، والأدوات المعرفية تختلف والتوجهات تختلف.
مثال خلق الإنسان وتكوينه حيث تكون الحرية في “جبّلته” فلا نتعب أنفسنا بعد سورة الشمس في مسيّرأو مخيّر. ثم بعد ذلك حين يقول الله سبحانه وتعالى كما يقال الآن لا تحاولوا أن تتطلعوا أكثر من ذلك.( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). والمعنى الإلهي هنا نقيض المعنى التراثي.
أنا لا “أفسر” القرآن وإنما “أحلل” آياية. قال الله سبحانه وتعالى هذه الآية في سورة الإسراء.( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) ارتباطاً بعلم الروح وهنا ربط الله بين علم الروح وبين حالة من حالات العلاقات الإلهية للكون. حالة “الأمر الإلهي” وليست “الإرادة الإلهيّة” وليس “المشيئة الإلهية” لأن المنهج المعرفي يوضح لك “توسّطات” بما يسمى توسّطات الفعل الإلهيّ الجدليّ في علاقته مع الكون. هناك فعل أمر يرقى على المادة ويرقى على الوقائع ويرقى على الحيثيات,و أقرب مثال أجسده لك العبد الصالح في مجلس نبي الله سليمان. قال سليمان من يجلب لي عرش ماجدة التي يسمونها خطأ بلقيس وبلقيس كلمة يونانية ومعناها الصديقة أو الخليلة وهي اسمها ماجدة. حين قال:
قَالَ يَاأَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(38)قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40) – النمل / ج 19.
فالجن يخطف الخطفة الأولى وهو قوي ويحمل ويقطع المسافات. أما من عنده علم الكتاب فقد قال أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك بأقل من الثانية. هنا قدرة تجاوز للطبيعة وللعاديات وللمنطق المشيأ الذي يعيش فيه الإنسان. هذه أمور من عالم الأمر ولكن هناك ما هو دون عالم الأمر أي عالم الإرادة حيث لم يشق الله البحر فجأة لموسى ولكنه قال له اضرب بعصاك البحر. جعل هناك وسيلة والوسيلة ليست من عالم الأمر وإنما اتخذت طابعاً توسطياً في عالم الإرادة ,ولكن حين تأتي القضية إلى آخر مستوى وهو علاقة الله – سبحانه – بالكون الطبيعي المشيأ وهو عالم القوانين الظاهرة وعالم الجاذبية ، هذه العوالم الواقعية الموضوعية التي تتأسس عليها الحضارات الإنسانية وركائزها ، وهذه تصل إلى درجة من الدقة والانضباط حتى أن الإنسان يفكر أحيانا أنه مستغنى عن الله وعن تدخل الله لأنه يمتلك كل الأجهزة والتحكم, لدرجة أنّ مركبة فضائية في القمر يمكن له أن يصلحها من المحطات الأرضية عبر أجهزة تحكّم. هذا العالم بأكمله عالم آخر, ظاهر بقوانينه. فهناك عالم موسى القائم على الإرادة وهناك العالم الأكبر القائم على الأمر والله سبحانه وتعالى في أكثر موقع في القرآن يقول: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) – ياسين / ج 23.
( أمره، أراد، الشيء), الأمر والإرادة والتشيؤ جعلها ثلاث حالات توسط في الفعل الإلهي وعلاقته بالكون. ماذا فهم التراث من هذه الآية؟ اللهم اجعل أمرك بين كن فيكون أمر فجائي. العملية الفجائية بالنسبة للتراث لا يوجد بها توسطات ولهذا السبب كان منهجي معرفياً ومفارقاً.
أنا لا أحدث قطيعة مع التراث وأقول للناس اتركوا العلماء وأنا خلاص عبقري آخر الزمان. أنا أقول يا جماعة هذا التراث بحاجة إلى أن نعيد استيعابه ضمن منهجيتنا المعرفية بنفس الطريقة التي تحدثت فيها عن ابن رشيد وابن خلدون وابن عربي فيما يبدو للناس أنهم متناقضين مع أن علاقة ابن رشد بابن عربي علاقة عقلانية حميمية. أخلص من ذلك إلى القول حتى حينما يقول الله عز وجل وما أمرنا إلا واحد كلمح بالبصر. فيجب أن نفهم الآية سابقتها (إنا كل شيء خلقناه بقدر) -: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ(50) – القمر / ج 27.
هذه الضوابط في المعرفة المنهجية لا توجد في التراث ، لا لأنهم ضعفاء وأنا عبقري ، لأن الأدوات المعرفية التي بين أيدينا لم تكن متوافره في ذلك الوقت. لهذا السبب أنا حينما أقرأ حفريات المعرفة استفيد من هذه القراءات مع أنها ليست مطروحه للتفسير ولا لفهم القرآن ولكن للمنهج المعرفي الابتسمولوجي. أيضاً حينما أقرأ لمدرسة فرانكفورت وأجد بعض قضايا الدغمائية المادية وأجد من بينهم من يتحول إلى وجودي أكثر من “سارتر” أو أقرأ “لهبرماز” أو أقرأ “لماخ” أجد فيهم قدرات تفكيكية حتى في فلسفة المادية الجدلية ، وكذلك حين أقرأ دراسات “حلقة فيينا” في المنطقية الوضعية المعاصرة ، لذلك كثيراً ما أنصح بعض الأصدقاء بالاستكثار من قراءة آثار مدرسة فرانكفورت وليس فيها كلمة واحدة عن القرآن أو النبي ولكن فيها “أدوات”.
فاضل عنان: في كل كتاباتك ونتاجاتك تركز على المنهج المعرفي لفهم القرآن…
هذا أحد المداخل, لا تنسى أني أعتبر العرفانية مدخلاً إلى العقلانية لأني حينما طرحت جدلية الغيب والإنسان والطبيعة هذا يعني أن العلاقة مع الغيب بعد جوهري وأساسي في فهم هذه الجدلية والمعرفية.
- ولذلك حين يقال إنني ابتسمولوجي كمنهج فرانكفورت أو هيرمان وفلان وفلان. أنا استفيد من هؤلاء لكنني لست في النهاية من هؤلاء ,وذلك نتيجة إضافتي في النهاية البعد الغيبي كبعد أساسي.
علي الديري: ما مفهوم الغيبي لديك؟
- مفهوم الغيبي هو كل ما يتعلق بالله المحجوب عن رؤيتنا الرؤية العينة وعن نظرنا العقلي. المحجوب عن الرؤية بالعين والنظر العقلي والنظر دائماً عقلي لا علاقة له بالعين. كل ما حجب عنا من أعماق هذه الكونيّة من رؤية عينيّة ونظر عقليّ هو جزء من متناولات الغيب الذي نحاول أن نكتشفه وأن نسعى إليه ولكن كيف؟… بالقرآن من ناحية والتدبر فيه وبالاستعانة بالله, والله سبحانه وتعالى فتح هذا الباب في سورة فاطر حينما خاطب النبي (r) بالقول:
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31)ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) – فاطر / ج 22.
اختار الله كلمة “خبير” “تفصيل” و”بصير” “كليات” ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا، التوريث يخالف المنطق اللاهوتي, الذي يرى أن واحداً يمشي فوق الماء وآخر يمشي في الهواء وواحد يقلب الماء إلى حليب.., لا قال هم ثلاثة أنواع.( فمنهم مقتصد) بين البين يعيش مع الناس في الأسواق ويخاطبك وتخاطبه (ومنهم ظالم لنفسه) عائش في تفكير عادي ,وهناك(السابق في الخيرات) كالذي قال أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ومثال ذلك الذي علم موسى. ولو أراد الله أن يتدنى به من مستوى العبودية لسمّاه, ولكن قال عبداً لنا كحالة محمد في الإسراء. “سبحان الذي أسرى بعبده” كحالة هذا الموجود مع نبي الله سليمان الذي عنده علم من الكتاب. هؤلاء بلغوا درجة من العبودية لم يعد الاسم مجسّداً لهم.
أعتقد أني أوضحت نفسي بهذا الموجز. فالغيب بعد أساسي فيما أطرح .
- كيف تحولت إليه وكيف في نفس الوقت حافظت على هذا البعد الرمزي والبعد الاطلاقي والبعد الروحي؟.
* لأني احتميت بالامتناهي بمطلق الإنسان ونزوعه اللامتناهي, وحريته, وبقانون الطبيعة الذي لم ألغه ولا أقول أن الطبيعة ناقصة والله يكملها فالطبيعة متكاملة في أصلها فهنا لديك ثلاث عقليات وسأوضح لك أسلوب الربط.
لديك ثلاث عقليات متناقضة وما بينهم قطيعة معرفية، كما يتوهم البعض.
عقلية تؤمن بالقانون الطبيعي كما هو في عالم التشيؤ وهذا أؤمن به. فما هو الفرق بيني وبين علماني في مختبره العلمي.
كما إني أؤمن بالإنسان وحريته فما الفرق بيني وبين جان بول سارتر ثم إني أؤمن بالغيب. كيف التركيب ؟… هنا قضية الابتسمولوجي الذي أقول بها. قضية “الجمع بين القراءتين” كما أسميتها قراءة الغيب وقراءة الحركة الكونية. هذه القراءة أمر الله بها منذ البدء.
قال الله:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) – العلق / ج 30.
العلم بالقلم هو العلم الموضوعي ينتقل بالقراءة دون أن تعرفني ولا أعرفك كما ينقل القلم نظريات العلوم التطبيقية. تقرأ كتاباً وتذهب إلى المعمل بموجب هذا الكتاب وتطبق, فالقضية لا فيها ذاتية ولا فيها فعل غيب، هنا كيف تربط بين ما أمر الله به أن يربط، الربط الذي سميته الجمع بين القرائتين. كيف تقرأ جدلية الغيب والإنسان والطبيعة أقرأ باسم ربك الذي خلق، كونه خالق مهيمناً باسطاً لكل الوجود وهذه رؤية وهنا الغيب.
والرؤية الثانية القلم الموضوعي , العلمي, التحليلي, الذي تقع فيه هذه المداخل التي ذكرتها لك، القراءة بين الغيب والوجود، هذه القراءة بحاجة إلى مصدر مطلق يعينك عليها، ليس مصدرك هي عقليتك الذاتية، لذلك جاء القرآن ليبيّن لك فعل الله في الجدليات التوسطية – عالم الأمر وعالم الإرادة وعالم المشيئة – والموازية للحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف وحاكمية الكتاب, هذه القضايا كلها تنفذ إليها من خلال الربط بين القرائتين، الرابط بين القرائتين ليس بطريقة بعض الأخوان الذي يقول لك نعم اخترعوا الذرة وفي القرآن ذكرت الذرة. والقرآن ليس كتاب اختبارات طبيّة ولا يوجد في أسلمة المعرفة ما يسمى عجلة إسلامية أو سيارة إسلامية لذلك الجمع بين القرائتين يستوجب الآتي. الدخول تحليلياً ومعرفياً في النص القرآني والدخول علمياً للنظريات العلمية والإنسانية الموجودة لأن القرآن بحكم “كونيته” يتنزل على كافة “مناهج المعرفة البشرية” يستوعبها ويتجاوزها فأنت لا تتجاوز شيئاً لا تستوعبه أصلاً، القرآن بحكم كونيته يتطلب منك استيعاب المناهج المعرفية البشرية ثم الاستيعاب الكوني لأنها مناهج وضعية وظفها الإنسان.
كذلك الإسلام بحكم “عالميته” يعطيك التفاعل مع كل “الأنساق الحضارية” وأيضاً تتجاوز السلبيات الموجودة كسلبيات الانقسام الطبقي وسلبيات العولمة . هذه السلبيات في تقسيم الحضارات أنت تفهم دوافعها وبحكم عالمية الإسلام ترقى عليها نحو “المثال”.
وكذلك لا ترفض مناهج المعرفة البشرية فعندما يأتيك رجل في علم التاريخ ويقول أن التحدي والاستجابة كنظرية “توينبي”، صحيحة وممثلة تطبيقياً في مسار التاريخ لا تستطيع أن ترفضها ، ربنا أراد هذا وأنت لست حكماً على الله ، هناك قوانين في عالم المشيئة، الجمع بين القراءتين هنا هو المدخل وهو الأداة المعرفية للغيب. ربنا سبحانه وتعالى أمام مطلق الإنسان ونزوعه اللامتناهي مكّنه من وعي مطلق، لذلك إكثاري من كلمة معرفية وأكثر من عبارة أخرى، القرآن هو “المعادل بالوحي والوعي للوجود الكوني وحركته”، فدائماً أقول القرآن مطلق ويعادل الإنسان المطلق ويعادل الوجود المطلق وفوق المطلقات الثلاث “إلهٌ أزلي”.
علي الديري: أنت تريد أن تقرأ الإنسان ببعده المعرفي، ولكن الذات الإنسانية بتاريخها وبمتخيلاتها وبايديولوجيتها تتجاوز هذا البعد الذي هو أحد أبعادها. ألا ترى أنك بمنهجك الابستمولوجي تستبعد مناطق من ذات الإنسان لها شان كبير في القراءة والتفسير والتأويل؟
أنا كررت كلمة “استيعاب وتجاوز” لأكثر من مرة، هذه يجب استيعابها وحين تحدثت قلت يجب أن نفهم ابن رشد وقلت يجب أن نفهم ابن خلدون وقلت ابن خلدون أعمق مما أطلق عليه في العمران، وقلت يجب أن نستوعب حتى الشيخ ابن عربي الذي يعتقد البعض أنه حلولي ويقول بوحدة الوجود ويقول إنه الله. إن هذا الكلام الفارغ ينم عن الجهل وعدم الإطلاع. ابن عربي يعتبر – رضوان الله عليه – من المتصوفة العرفانية الغيبية في نظر الناس وابن رشد يعتبر عقلاني وابن خلدون عقلاني فأنا إذا كنت أستبعده أستبعد بذلك المنهج، كله، أنا أستوعب. هذا هو المنهج ثم إني أتجاوز بعد الاستيعاب لذلك أعشق قراءة الحضارة الصينية، أعشق قراءة كل القراءات من انفجار فكر التنوير في اوروبا من سنة 1300 وإلى اليوم وقبل قليل تحدثت عن مدرسة فرانكفورت وحلقة فيّنا، وأركز على الجوانب النقدية في مسيرة هذه التجارب الإنسانية. مثلاً توقفت كثيراً لدى حوار توينبي وروزنتال حول طبيعة السيد المسيح وقمت بترجمة تلك الحوارات ونشرها في صحيفة “الاتحاد – أبو ظبي – بتاريخ 29/3/1979). فهذا كله استيعاب إيجابي للموروث الإنساني فحين أحدث قطيعة مع الموروث الإنساني أعيش حينها في ظلام ، تصبح المنهجية المعرفية مختزلة. أنا أرفض تطبيق مبدأ القطيعة المعرفية على تراثنا وعلى تراث الآخرين وعلى العلم المعاصر. اللاهوتية تحدث قطيعة معرفية مع التراث المعرفي ، والتراث الحضاري وكذلك الفكر الوضعي منذ أوجست كونت الذي لم يميز بين “مراحل” التفكير “وأنماط” وتطور التفكير ، حين قال المرحلة اللاهوتية ثم المرحلة الميتافيزيقية ثم الوضعية و هذه ليست مراحل، هذه أنماط تفكير ، هناك في الفلسفة اليونانية كان نمط التفكير الوضعي. هذه أنماط وليست مراحل. يتطور الفكر بين ثلاث مراحل أخرى المرحلة الاحيائية الوثنية القديمة والمرحلة الثنائية التي تضع الشمس في مقابل القمر والحار في مقابل البارد, ومغامرة العقل الأولى والمرحلة الأخيرة هي المرحلة الجدلية توحّد الكثرة كلها في وجود كوني واحد سواء أكان وحدة وجود مادي أو وحدة وجود روحي دون حلوليّة,ودون تجسد.
علي الديري: ألم تتجاوز الدراسات الحديثة أو ما بعد الحداثية رواد مدرسة فينا في فهمهم لواقع الإنسان وحقيقته؟
على شرط أن تفهم ما أعنيه أنا بالواقع. الواقع أعني به الحركة الموجودة في كل التوجّهات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية ، لستُ واقعيا ولا أنتمي إلى مذهب المنفعة أو البرجماتية فأكون واقعيا.. لا .. أنا أرفض هذا وأرفضها في العولمة الأمريكية التي لا تقوم على فلسفة ولا على مثل وانما تقوم على الواقع والنظرة الواقعية للإنسان. فأنا غير متعامل مع الواقع بالمنطق البراجماتي أنا أرفضه تماماً كما رفضت القول أن سيدنا محمد (r) حينما وقع صلح الحديبية كان واقعياً براجماتياً. قلت لهم أنه وقع هذا الصلح وهو في “الأرض الحرام” الذي يحرّم فيها القتال إلا إذا تم الاعتداء والاعتداء لم يتم، وفي “الشهر الحرام” حيث لا يجوز القتال إلاً إذا تم الإعتداء. ثم هل محمد (r) بحاجة إلى واقعية ليدبّر أمره مع مشركي قريش، وربنا يقول:
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40) – التوبة / ج 10.
فحتى أسلوبي في التعاطي مع هذه القضايا ليس بواقعي ولكن أقول لك أنزل بالفكر على الواقع. أن الفكري لا يكون هائماً في فضاء تراثي فكري إنما يكون الفكر ضرورة وحاجة لحل مشكلات الواقع. لا يمكن أن تكون الأمة العربية بأكملها في حالة هزائم وتكون اقتصادياتها مهترئة وتكون مدرسة الإتباع والتقليد والنقل سائدة في القرن الواحد والعشرين وأنا أحلل نصوص شيخ فلان في القرن الهجري والعلامة فلان… لا هذا ليس بعملي, ماهو عملي أزمات الواقع واشكالياته وحلوله من خلال القرآن. أنا لست هنا لأفسر الواقع أنا هنا لأحلل الواقع وأغيره. ولا أغيره أنا محمد أبو القاسم لا .. أقصد أن ألتزم بمنهج تحليل من أجل التغيير هذه قضية الارتباط بين الفكر والواقع وليس ارتباط الفكر بالبراجماتية الواقعية . هناك أكثر من إنسان الآن يرتبط بالواقع وبما يطلق عليه “المدرسة الوسطية” الذي يقول لك القرآن وسط والأمة وسط في حين أن دلالات الآيات تربط بين الوسطية الجغرافية وخروج خير أمة والشهادة على الناس من حولهم والتوجه إلى القبلة في مكة وشهادة الرسول (r) على قومه:
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(142)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(143)قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ(145) – البقرة / ج 2. فهنا ربط واضح ، فالمعنى هو “الوسط الجغرافي” لتفاعل الأقوام من حولهم بحكم عالمية الإسلام. فأخذوا هذا المقصد من المضمون المعرفي وجعلوها وسطيّة ، هؤلاء هم واقعيون يقولون سيدنا محمد وقّع صلح الحديبية فكان براجماتيا دون أن يفهموا لماذا وقع الصلح. ولو أراد النبي “القتال لاختلف الأمر” لأن رسالة سيدنا محمد من عالم الأمر إلى عالم المشيئة ، هذه لا يفهمونها لأنهم لا يفهمون منهجية القرآن المعرفية. آخر سورة النمل ماذا تقول:
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ(91)وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ(92)وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(93) – النمل / ج 20.
هذه النبوة مستمدة من عالم الأمر لذلك الملائكة تنزلت في بدر له, الخندق والريح له,و النبوة سيدة وخاتمة كذلك من عالم الأمر, لكنها تنزلت على عالم المشيئة الظاهرة. ولهذا تم الربط قرآنياً بين إبراهيم (عالم المشيئة) ومحمد (عالم الأمر). مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(67)إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68) – آل عمران / ج 3.
فاضل عنان: أنت الآن في كلامك هذا تخلق أشكالية خطيرة من خلال تعاطيك مع محمد (ص) باعتباره شخصيتين ..فأين أذن بشرية محمد وانسانيته في حركته الرسالية ؟
قيمة محمد إنه الإنسان الذي رقاه الله له، إنما أنا بشر مثلكم.. حين جاؤوه وقالوا له موسى نبي من قبلك قال نعم قالوا انه شق البحر، وعيسى نبي من قبلك وقد بعث الموتى…. فردهم إلى عالم المشيئة الذي ترتبط به رسالته. هذه هي مهمة المعرفية في القرآن الكريم أن محمداً (r) جاء على رأس تجربة بشرية لكافة الناس لا علاقة لها بالحاكمية الإلهية وإنما جاء بكتاب هو الحاكمية. لما قالوا له إنهم يريدون معاجز كالتي عند موسى أو عيسى.
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا(93) – الإسراء / ج 15.
لذلك لديه اسم آخر لتعرف من هو. (أحمد)حتى الآن لم يعرف هذا الاسم ، لماذا بعض الأسماء في القرآن مزدوجتين وفي حالتين ” محمد هو أحمد” وعيسى هو المسيح ما الفرق بينهما؟ هنا الفرق بين ( أحمد – المسيح) وبين الاسم “الحامل” و”المحمول” في الدراسات اللغوية الألسنية المعاصرة ، الفرق بين الخصائص الكاملة لهذا الإنسان وبين مظهر هذا الإنسان واسمه الحامل. عيسى لا يستطيع أن يرفع حجر على حجر، لكن المسيح نعم ، هنا قوة كاملة هذا من عالم الغيب. هذه النصرة بملائكة بدر وبريح الخندق وبالقرآن ، إنها في الأرض الحرام وليست الأرض المقدسة. الأرض المقدسة درجة ثانية ، مكة حرام ، ليست مقدسة واللذين يقولون مكة مقدسة والشعائر المقدسة ينزلون بقيمة مكة دون أن يعرفوا مكة محرمة بالبيت الحرام. لذلك لا يوجد تكفير على المسلم إلا في مكة إذا انتهك حرمة المكان وكفارته كذا مثلاً.. هنا أقول دلالات القرآن الكريم لا تقل مكة مقدسة وما تنزل بمكة هو من عالم الأمر. ولذلك: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(6) – النمل / ج 19 – ربنا لم يجرد محمد من بشريته أمام الناس. أنت لست مطالب بأكثر من ذلك.
فاضل عنان: أنت تضع من محمد شخصية تولد اشكاليات خطيرة على مستوى الفكر الإسلامي.؟!!
* هذا ما أريده.. أرجو أن تكون هناك اشكاليات يفكرون بها فلا يناموا ولا يأكلوا كثيراً.
فاضل عنان: إذن أنت تعمدت خلق اشكاليات خطيرة داخل الفكر الإسلامي؟.
* أنا رجل أثير الإشكاليات وهذه هي مهمتي لأني أنا دخلت إلى عالم الغيب عبر اشكاليات كما بدأنا الحديث ، لم أدخل مستسلماً لأفوز بالجنة .. فهذه المشاكل أنا عانيت فيها، أريد للمسلمين أن يعانوها جميعاً وأن يشعروا بالتوتر الفكري ، وبدون توتر ومعاناة ليس هناك إبداع، فالقضية ليست فقط قضية أحمد والمسيح في مقابل عيسى ومحمد فهذه قضية تمتد إلى قضايا أكثر خطورة في القرآن تمتد إلى( ألف لام ميم كاف هاء ياء عين صاد) ثم ان الله سبحانه وتعالى ليس بخيلاً ليدخر العلوم لنفسه ، أنزل لك هذه الحروف في القرآن لكي تعرفها ولا يمكن أن تعرفها دون منهج.
* هذه القراءة حين تجمع بين القرائتين تدرك أن كل الذي أنعم الله به عليك ليس عبقريتك وعملك فقط وإنما هو تسخير من الله ، لماذا ربط الله بين القرائتين لأنه قال بعد أن أمر.( أقرأ باسم ربك الذي خلق )وأقرأ بالقلم ثم قال ..( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) هذا الجمع بين القرائتين يعمق عبوديتك لله ، يعني مدخل العبودية في الجمع بين القرائتين يعمق عبودية جسدك ونفسك وروحك. فيصبح الله سبحانه وتعالى دائم الحضور في نفسك وتحاول أن تنظر للأمور مستعيناً به لذلك أقول لك الآتي..
السلوك أنا لا أدعي العصمة فالعصمة انتهت بمحمد (r) و القضية أن الله سبحانه وتعالى حين تحدث عن الورثة لم يقل الأولياء كذ كذا بمواصفات . وإنما قال . ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات. جعل الإرث مفتوحاً للجميع ، ولاحظ هنا أن قضية الإرث مهمة جداً. الإرث يكون عن ميّت والذي مات سيدنا محمد (r) ولا يستطيع الوارث أن يدّعي أنه نبي من بعده أو رسول من بعده والله حي. انظر إلى دقة الكلمة الدلاليّة فيها الإرث لا يكون عن حي والله حيّ ..
علي الديري: كيف ترى القراءة التي ترى أن الإنسان عبداً يأتمر بأوامر عبادية؟
أنا أتمنى أن يكون الإنسان عبداً لله .. القرآن وضحها بفارق منهجي كبير جداً فهناك البعض الذي ينتسب إلى الله بمنطق المسترق والعبد المملوك كأنه يمتثل لسيده بمنطق المملوك وربنا في سورة النحل قال:
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(74)ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(75)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(77)وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(79) – النحل / ج 14.
فخصائص العبودية لله والمفارقة لعبودية العبد المملوك في سورة النحل لا يحيط بها كثيرون حين يقولون لك امتثل لله. لا تتكلم؟ فكيف لا أتكلم وربنا أصلا يقول:
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36)– الإسراء / ج 15.
تعال وقل لي أنت مقلد لفلان و تابع لفلان. إنها قصة العبد المملوك والأبكم المصادر من حرية التعبير كلّ على مولاه، معناه مئة في المئة لا يفكر ولا يتحرك، هذا المثل للعبودية لا يريده الله سبحانه وتعالى. العبودية الامتثالية كقولهم اللهمّ إيمان العجائز، نريد إيمان الشباب الحي الذي يحرّك روح السمع والبصر والفؤاد وهنا في سورة النحل يقول ” أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ..” يعني كلمة الحرية والطائر موجودة عندك قبل 14 قرن. ونقد المجتمع العبودي الفاقد لقدرة النقد موجودة في سورة النحل.
حتى في الاختيار السياسي بعض الناس لا يفرقون بين أولي الأمر (منكم) وأولي الأمر (عليكم) وأولي الأمر (فيكم).
فهناك من أراد أن يركب النص القرآني على تراث الأمة وعرفها وتقاليدها واختياراتها من “سقيفة بن ساعده” التي انتهت لاختيار “أبي بكر” ، وإلى “تعيين” عمر بقرار من أبي بكر ، وإلى تحديد مجلس شوري لا يتجاوز العشرة لتقرير مصير الخلافة بعد عمر ، وإلى تحكيم رجلين فقط في مصير أمة بأسرها هما “عمرو بن العاص” و “أبو موسى الأشعري”.
لا أريد هنا محاكمة ظروف تاريخية لها أوضاعها الاجتماعية والعرفية والثقافية ولكني أقول أن تراثنا السياسي لم ينتج “أداة” للاختيار الحر تستوعب كافة فعاليات المجتمع (اولي الأمر منكم) ولم تحدد أنظمتنا الإسلامية الأدوات الدستورية الضامنة للحرية.
لهذا أكدت في كثير من دراساتي على “علمانية الدولة” وليس على “علمنة المجتمع” فأنا أميز بين “الحرية الإسلامية” و “الليبرالية الغربية” . وأصر في المجتمع على دور المؤسسات الاجتماعية أي “المجتمع المدني”.
هذا كله موجود أستمده من سورة النحل..
* كثير من الفقهاء يفهمون العبودية الامتثالية، لذلك بعضهم يحرّمون نوعاً من التفكير حين تقول لهم ماذا تعني الآية الفلانية في القرآن يقولون لك اسكت هذا علم اختص الله به لنفسه لماذا ؟ لأنهم لا يعلمون فلا يريدونك أن تفكر أو تعلم.
علي الديري: كيف تقرأ هذه الأوامر من صلاة وصيام وحجاب و و و؟
العبودية في حالتها الإنسانية.. ربنا سبحانه وتعالى حين تحدث عن الإسلام قال إنه تفضل على المسلمين بالإسلام ولكنه استخدم عبارات “ومن يبتغ غير الإسلام دينا” لاحظ الابتغاء –الارتقاء- “إن الدين عند الله .. وليس عند الناس” الإسلام.. هيا تفضلوا وارتقوا وارتفعوا عملية الرقي بالعبودية لله هي قمة التحرر والاطلاق الإنساني.
لا زال منهج التراث يستلب الإنسان، يحرف التوجه باتجاه الله سبحانه وتعالى إلى امتثالية يماثل عرف العبودية البشرية في علاقة البشر ببعضهم. هذا مرفوض قرآنيا. الناس دائماً يتمثلون الأمور بالمقايسات الموجودة أمامهم.. إذا كيف نتجاوز إسقاط أوضاعنا وعرفنا وحالاتنا على المفهوم القرآني للعبودية؟ لاحظ ربنا يقول لك “هو الذي أخرجكم من بطون امهاتكم..” فالعبد أبكم لا عنده حرية تعبير وماذا يقول الله “وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون” كيف تشكر؟.. بإظهار النعمة.. هل تشكر بالتقليد والإتباع والامتثال؟ إذا أنت لم تشكر، أين السمع والبصر والفؤاد وأين لاتقفوا ما ليس لك به علم.. لذلك الله سبحانه وتعالى يرفض كلمة راعنا أن تطلق على الناس. ” ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا..” فمصدر المعرفة والتفكر يرفض كلمة راع ورعية وعندك خمسة صحاح فيها كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.. جعلوا الناس بمرتبة بهائم .
فاضل عنان: توجد قراءة أخرى في هذا الحديث غير قراءتك أنت. فلماذا تحصر المعنى في البهيمية؟!
أولاً حينما ندخل في قضية الألسنية ودلالات المعنى هنا في التحليل ربنا سبحانه وتعالى ذكرها في أمر جلل: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104)مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(105)مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106) – البقرة / ج 1. لماذا لأنهم يعلمون مفهوم العبودية في الفكر التلمودي هو عبودية رب الجنود والامتثال للبطش، ربنا سبحانه وتعالى لم يستخدم كلمة راع إلا في موضعين في الأمانة وفي الرهبانية. لأن الرهبانية مفارقة للطبع البشري: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(27) – الحديد / ج 27. كما أن الامانة تتطلب حرصاً شديداً عليها. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) – المؤمنون / ج 18.
هذه الاشكالية اللغوية ليست في راع وراعنا وإنما تمتد أيضاً في مفردات القرآن إلى “الأميين” حتى الآن يقولون محو الأمية أي تعلم الخط والقراءة والكتابة، والأمية في القرآن هي “غير الكتابي” الذي ليس على كتاب سابق ولذلك التعبير عن النبي إنه الذي لا يخط بيمينه: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(48) – العنكبوت / ج 21.
فالرسول (r) لا يخط هذا الخط المتعارف عليه وفي نفس الوقت نفى أن يكون الرسول على كتابية سابقة ، فالأمية في النص القرآني تعادل اللاكتابي وهذا الخطأ شائع.
وهناك حديث عن معاوية أن الرسول يقول: “نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب” فمنذ متى أصبح معاوية راويا للحديث؟!!
فهذه قضايا لابد من التعامل معها بوضوح، فلذلك حين تسألني عن أميّ وعن راع وعن رعية وأن الاسناد صحيح ، فإن الاسناد لا يهمني وإنما “المتن” ومدى اتساق المتن مع القرآن.
علي الديري: وماذا عن استفادتك من الجهود الحديثة التي تذهب في جزء منها نحو وجهتك، كجهود أركون مثلا؟
ميزة أركون إنه يساعدك على “التفكيك” ولكنه لا يساعدك على “التركيب” وعلى أركون أن يقطع المشوار من التفكيك إلى التركيب. وقتها يحتاج لأن يتعمق في القرآن. إن أركون يساعدني 50% ولكن في الخمسين الآخرى أحتاج أن أقيده قليلاً.. مشكلة الفلسفة التفكيكية هي التركيب. فكك كما شئت وساعدني في التركيب أنا أتبنى التاريخانية.. يعني أنا لماذا معجب بالمباحث الطبيعية لمدرسة فينّا لأنها تفكك المذهب الوضعي( الدوغماتيك) المادي بإدخالها النسبية تفتقر إلى الكتاب المطلق.
“سقراط” لعن آلهة اليونان وحرض الشباب لأن يفكروا في الواقع الأسطوري ويفكروا كيف أن تكون ديمقراطية وتعددية.. فكك فكك فكك ولكن من أين يركب؟ هنا القضية؟!.. “أفلاطون” من بعده حاول التركيب في الجمهورية الفاضلة ولكنه تركيب هشّ مثاليّ ضعيف لأنه لا يملك رؤية كونية مطلقة لكنه حاول ، بالرغم من أنّ أكبر دعاة الجمهورية كادوا يبيعونه في سوق الإرقاء..
أنا في دلالات اللغة مثلاً أفرق بين الخمار والحجاب.. وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا(16)فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا(17) – مريم / ج 16.
فالحجاب هو “الحائط العازل” ، أما ما أمر الله به نساء المؤمنين فهو “الخمار” وهو “ثوب” يسدل على مواضع في الجسد حددها الله نفسه ، وهي “الجيوب”: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ – النور / ج 18. وقد حدد الله “الجيوب” في خطابه لموسى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(12) – النمل / ج 19. فالجيب هو ما بين مثنيين ، كالابط وما بين النهدين والصلبين ، أي مواضع “زينة” المرأة ، والزينة في اللغة غير “الحلى”.
أنا مع الخمار لأنّ هذا هو الحكم الشرعي.
وكذلك:
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(59) – الأحزاب / ج 22. فالمطلوب إدناء الجلباب على الجسد لتتميز المرأة عن الرجل ، هذه امرأه أو رجل أو أصولي يريد تفجير مبنى ، فهناك ضوابط يجب التقيد بها.. قالوا لي حجاب والحجاب هو الحائط ,هل مطلوب من نسائنا أن يتحركوا ضمن حوائط؟!.. فهنا مشكلة الألسنية ودلالات الألفاظ واللغة.
الخاتمة
وفي ختام هذه المقابلة أود التركيز على امرين:
الأمر الأول: وهو أن الرؤية الكونية المنهجية والمعرفية والتي تربط ما بين أبعاد ثلاثة ، هي الغيب والإنسان والطبيعة ، إنما تتعالى وتسمو على أي “آحادية” أو “شمولية” ، لأنها تجرد الغيب من اللاهوت الجبري والكهنوت الوصائي. كما تجرد الطبيعة من المنظور المادي لفلسفة العلوم الطبيعية والتي تحوّلوا بها للإنسان نفسه ، وكما تجرد الإنسان من النزعة البهيمية والغريزية بمنطقها الفردي والليبرالي الإباحي ، لتعطي الإنسان قيمة إنسانية ووجودية كونية ، فالإنسان ممتد منذ ما قبل ميلاده وإلى ما بعد موته : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)–البقرة/ج 1.
الأمر الثاني: بما أن لكل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة “حرسه القديم”، من حفظة التراث واللاهوت ، ومن الطبيعة ومنطق “الوضعيين” والإنسان ومنطق العدميين ، يرى هؤلاء جميعاً أن منهج جدلية الغيب والإنسان والطبيعة هو منهج يحدث قطيعة معرفية معهم ، فهنا يتحد اللاهوتي مع العدمي مع الوضعي ضد هذا المنهج ، وهؤلاء هم الغلبة الغالبة في فضاءآت الفكر ، ولهذا يتعمدون إجهاض محاولاتنا لنشر هذا المنهج ، وإذا كتبوا عنه ألبسوه ما ليس من حقيقته.
وكذلك هناك موقف “الأصوليين” و “الأنظمة” معاً. فبقدر الصراع بينهما إلاّ أنهما يتحدان في مواجهة هذا الفكر والمنهج. فما هو خاص بالأصولية معروف ، غير أن الأنظمة لا تريد الاستعانة بهذا المنهج التجديدي النوعي حتى لمكافحة الأصولية لأنها ترى في بعض منطلقاته ما هو أكثر خطر عليها ، وبالذات أولي الأمر (منكم) وليس (فيكم) أو (عليكم).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.