ظلت مواقف المواصلات بالعاصمة «موقف الإستاد وموقف كركر بالخرطوم على سبيل المثال» تكتظ بالمواطنين الذين يأتون من أماكن عملهم مجهدين ويقضي الكثيرون منهم بعد ذلك الساعات الطوال حتى يظفر المحظوظ منهم بمقعد في مركبة عامة ويزيد هذا الانتظار الممل إجهادهم ومعاناتهم وهم يتسابقون عندما تظهر مركبة عامة «والقوي يأكل الضعيف» إذ أن التدافع يكون أحياناً بالمناكب عند الابواب والمؤلم أن أصحاب الحالات الخاصة هم الأكثر معاناة وصبراً وإن النساء يمنعهن الخفر من التدافع في أبواب المركبات ومن مكارم الأخلاق تقدير المحارم. وإن الشعب السوداني يتمتع بقيم فاضلة نأمل ألا تسقط تحت سنابك هذا الزمن الأغبر . وإن بصات الولاية عددها قليل بالنسبة لعدد المواطنين ولم تُحدث تغييراً وتأثيراً يُذكر.. ولا ندري لماذا غاب المسؤولون ولم يكونوا موجودين في هذه الأيام وسط المواطنين ليقفوا بأنفسهم على هذه الأزمة الحادة والمعاناة الأليمة التي تحتاج لمعالجات سريعة ناجعة لا تحتمل التلكؤ والإبطاء ولا ندري هل هذه الأزمة مصطَنعة للضغط لزيادة أسعار الترحيل أم ما هو السبب؟! وظل السيد وزير المالية يعلن أو بالأحرى يهدد بين الفينة والأخرى بأنهم سيرفعون الدعم عن المحروقات وهذا إذا تم يؤدي لزيادة أسعار النقل والمواصلات ويترتب عليه زيادة أسعار كافة السلع زيادة كبيرة بين غمضة عين وانتباهتها ومن الواضح أن الدولة قد رفعت يدها تماماً بدعوى أنها حررت الأسعار وتركت السوق للعرض والطلب ولكن الواقع المحسوس الملموس يؤكد أن ما يحدث ليس هو تحرير أسعار ولكنه فوضى أسواق أخذت ومابرحت تسرح وتمرح فيها حيتان البحر وتماسيحها صغيرها ومتوسطها وكبيرها. واذا أخذت جولة سريعة في الأسواق لتقف على الأحوال كمراقب وسط البائعين والمشترين وسألت الجزارين والخضرجية فإنهم يؤكدون أن الكثيرين لا يستطيعون شراء ربع كيلو من اللحم يومياً إلا بشق الأنفس والبدائل البروتينية الأخرى هي أيضاً غالية وأن الأصدقاء بالمكتبات وأكشاك بيع الصحف وبعض باعة الصحف الذين يفرشونها في قارعة الطريق يؤكدون أن الكثيرين يتحلقون حولهم ويكتفون بقراءة العناوين والخطوط العريضة لقلة ذات اليد وأن بعض من كانوا يشترون صحيفتين أخذ الواحد منهم يشتري صحيفة واحدة وأن من كان يشتريها كلها أخذ يشتري نصفها وهذا لا ينطبق على الجميع إذ إن بعضهم لا يزالون على حالهم القديمة. وفي الظروف العادية يمكن أن يصرف فرد واحد على نفسه فقط في حدود الضروريات وبعض الكماليات والاجتماعيات حوالى «مليون جنيه بالقديم» ألف جنيه بالجديد قد تكفيه بالكاد فما بالك بأسرة مكونة من عدة أفراد عليها قيمة إيجار «هذا لا ينطبق على الكل» وإعاشة ورسوم دراسية ومواصلات وكهرباء ورسوم مياه ونفايات.... إلخ وقد بلغت معاناة المواطنين ذروتها القصوى. وبالطبع فإن هناك قطاعات كبيرة من المواطنين لا يصرفون مرتبات من الدولة لأنهم لا يعملون فيها ولاعلاقة لهم من بعيد أو من قريب بالفصل الأول الخاص بالمرتبات وتبعاً لذلك فإن كتلة نقدية كبيرة خارج وزارة المالية والخزينة العامة. وهناك كتلة نقدية كبيرة خارج القطاع المصرفي إذ يوجد مواطنون كثيرون لا يودعون أموالهم في المصارف ولكن كل المواطنين بصورة أو أخرى مرتبطون بالدولة إذ أن كل الرعاة والمزارعين والتجار والصنايعية ورجال المال والأعمال وكافة الفئات تدفع العوائد والرسوم والضرائب والجمارك والزكاة و... إلخ وتدفع للخزينة العامة وتستفيد من الخدمات العامة وحفظ الأمن.... إلخ لقد حدث عجز في الميزانية العامة ومن بين أسبابه المعلنة توقف ما كانت تضخه عائدات البترول في الميزانية العامة.. وقبل عقد ونيف من الزمان لم تكن عائدات البترول ضمن إيرادات الميزانية ومع ذلك لم يحدث فيها عجز بهذه الطريقة وقد ثبت للجميع أن الزراعة والصناعة قد أُهملت في السنوات البترولية السابقة ولما عادت ريمة لقديمها وجدت أن الحال قد تبدل وأن مصادر الإيرادات القديمة قد ضعفت لأن الإهمال قد عصف بها بسبب الترف الكاذب وقد كان الاهتمام ببناء الأبراج العالية وتبديد الموارد المالية أو تجميدها في البنايات الأسمنتية الشاهقة أهم عندهم من رفع معدلات الإنتاج ودعم الزراعة والصناعة وغيرها من الموارد وإن عائدات التعدين والذهب أحدثت تعويضاً نسبياً وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى ولولا ذلك لسقط الاقتصاد في هاوية سحيقة. وقد ارتفع الدولار ارتفاعاً لم يشهد له السودان مثيلاً من قبل هذا الدولار الذي كان يساوي قبل ثلث قرن ثلث جنيه سوداني والآن ارتفع سعره لعنان السماء وأصبح سلعة تباع في السوق الأسود بل إن العمالة الأجنبية تشتريه من السوق الأسود بالعملة السودانية لتحويله لذويهم بالخارج. وإن البعض أعلنوا قبل فترة أن الأشقاء من بعض الدول العربية سيضخون دولارات كثيرة تساهم في خفض سعره ولكن ثبت أن هؤلاء الأشقاء يتحدثون عن استثمارات في السودان إذا واتت الظروف وتم الاتفاق بين الطرفين ولا يتحدثون عن ضخ نقدي دولاري. وأُعلن مؤخراً عن بشريات جديدة لم يماط اللثام عنها ونرجو أن تكون حقيقة وليست أداة لتخويف تجار السوق الأسود ودعونا نأمل خيراً. وفي كل الأحوال فإن المواطن المغلوب على أمره لا يمكن أن يكون دائماً وطوال سنوات الإنقاذ هو الحيطة القصيرة فقد تحمل ما لا تتحمله راسيات الجبال وقد بلغت معاناته الحد الأقصى وإذا حدث أي تضخم أكثر وزيادة في الأسعار فإنه سيسقط تماماً من الإعياء ويجب على وزارة المالية أن تبحث عن بدائل أخرى لسد العجز وعليها أولاً وقف الإنفاق التفاخري البذخي والصرف غير المرشد والواجب يقتضي إزالة هذه الأورام السرطانية والانتفاخ الكاذب وعندها يمكن أن يستمر صبر المواطن النبيل حتى تنفرج الأحوال ولكن أن أي زيادة في المعاناة فيها استهانة بالمواطن واستفزاز له واعتباره رقماً صفرياً لا يؤبه له.