في جولة أدبية حول أهم ملامح الآداب العالمية المعاصرة ومعالمها الفكرية والإبداعية المميزة، سألقي الضوء على دراسةٍ أدبية جديرة بالثناء والتقدير، أعدها الباحث المفكر الدكتور نبيل راغب، وضمنها كتابه: «معالم الأدب العالمي المعاصر» الصادر عن دار المعارف بالقاهرة. ومن الدراسات الأدبية التي احتواها الكتاب، موضوعات مهمة عن الشعر والمسرح والرواية الإنجليزية، والأدب الأمريكي، والفرنسي، والإيطالي، والألماني، والروسي، والأسباني. وقد تأثر الأدب المعاصر في إنجلترا بطبيعة المجتمع الإنجليزي «التقليدي» المحافظ، وما سماه النقاد بثورة التجديد في الأدب الإنجليزي، التي أحدثها الأديب الكبير «و. ه .أودين»، لم تكن في الحقيقة، سوى مرحلة في التطور الهادئ الذي يتحكم فيه المزاج الإنجليزي المحافظ، ففي قصيدة: «سيدي، إن العداء لم يعرفه الإنسان»، استخدم «أودين» لغة جديدة وصعبة، تخضع لإيحاءات علم النفس، بالإضافة إلى عنصر التكثيف الذي يتميز به الشعر الشكسبيري بصفةٍ خاصة كذلك في قصيدة: «أسود كالليل» عاد «أودين» إلى الشعر الغنائي التقليدي، واستمد مضامينه من الأغاني الشعبية القديمة مع مزجها بخلفيةٍ عصرية، استمدت عناصرها من المجتمع الصناعي الذي فقد كل أحلام الرومانسية المثالية! وفي الأدب الإنجليزي المعاصر، مقولة للناقد «ف. ر . ليفيز» يؤكد فيها أن «د. ه . لورانس» و «ت. إس . اليوت» يمثلان قطبي الشد والجذب بين تياري «التجديد والتقليد» في الأدب الإنجليزي الحديث. ومن الملامح المميزة للأدب الأمريكي المعاصر، بحثه الدائم عن صوتٍ خاص به ليعبر عنه وسط مختلف الآداب العالمية التي سبق أن أرست تقاليدها.. ولهذا حرص الكاتبان: «مارك توين» و«سالينجر» على منح دور الراوي في الرواية لصبي صغير، ظل ينظر إلى المجتمع والعالم نظرةً تخالف النظرة التقليدية التي كتبت بها الروايات السابقة، وخاصة في أوربا! وليس من قبيل الصدفة أن يستعين روائيان أمريكيان بشخصية «الصبي الصغير» للقيام بدور الراوي، برغم أن قرناً من الزمان يفصل بينهما، وقد أصبح من معالم الأدب الأمريكي استغلال التناقض بين التلقائية والبراءة وبين تعقيد المجتمع وسطحيته، وذلك على سبيل النقد والسخرية والفكاهة الجادة! وقد وصف الروائي الإنجليزي «د. ه . لورانس» اتجاهات ومضامين الأدب الأمريكي في دراسته عن «الأدب الأمريكي الكلاسيكي» بقوله: إنه يتحرك من مرحلة «السن الهرم» إلى مرحلة «الشباب» الذهبية! وهذا هو الحلم الأمريكي بأن تغير أمريكا الجلد القديم المتجعد بحيوية شبابية جديدة! وقد اتجه غالبية النقاد الأمريكيين في كتاباتهم إلى فصل معالم التجربة الأدبية الأمريكية عن جذورها الأوربية، على أساس أن هذه التجربة مستقلة بذاتها، وتنتمي إلى العالم الجديد الذي انفصل عن القديم، ولكنهم لم يدركوا أن الحلم الأمريكي الذي يبحث عن: «الجزيرة المسحورة» و«أرض الأحلام»، لم يكن سوى الامتداد الطبيعي للخيال الأدبي الذي ساد عصر النهضة في أوربا!. وعن الشعر الفرنسي المعاصر، يقول الناقد الفرنسي «جان باري»: إن الشعر الفرنسي في المائة والخمسين سنة الأخيرة، تميز بظاهرة فريدة يتعذر وجودها في بلاد أخرى، وهي أنه في أعقاب كل حرب، تبدأ مدرسة جديدة في الشعر، مختلفة تماماً، شكلاً ومضموناً عن المدرسة الشعرية التي كانت سائدةً قبل الحرب، إذ بدأت «الرومانسية» في فرنسا بعد حروب نابليون.. والرمزية بعد هزيمة فرنسا في حرب عام 1870م، والسيريالية بعد الحرب العالمية الأولى، والوجودية بعد الحرب العالمية الثانية.. ومذهب السيريالية يختلف عن «الوجودية» في أن المذهب الأول قام أساساً على أكتاف الشعراء والفنانين التشكيليين، في حين، قامت المدرسة الوجودية على كاهل الفلاسفة! ولذلك عبرت «الوجودية» عن فلسفتها بحرية أكثر في المقال والرواية والمسرحية في حين كانت «نكسة» للشعر المعاصر في فرنسا.. ولهذا، نجد كثيراً من شعراء فرنسا «الشباب» قد ابتعدوا عن «جان بول سارتر» وتلاميذه، كمحاولةٍ لإحياء الشعر الفرنسي المعاصر بمنأى عن المذهب الوجودي! وقد تعددت الآن الاتجاهات الأدبية والفلسفية في الشعر الفرنسي، وقد جمعت بين «العقلانية» و«الصوفية» و«الغنائية» و«الميتافيزيقية».. ومن أبرز شعراء هذه المذاهب الفكرية والاتجاهات الأدبية، الشاعر فكتور سيجالين، والشاعر ديلاميلوش، والشاعر بيير ريفيردي، والشاعر سان جون بيرسي، والشاعر بيرجان جوف والشاعر رينيه شار. وفي الأدب الإيطالي المعاصر يبرز اسم الشاعر الكبير «بازوليني» وهو أمير شعراء إيطاليا، وقد فاز ديوانه: «رماد جرامتشي» بجائزة: «فيارجيو».. وهي أرفع جائزة أدبية تمنح في إيطاليا.. واسم الديوان يشير إلى زعيم فكري وقائد سياسي أدى دوراً كبيراً في حياة الإيطاليين في فترة عشرينيات القرن العشرين.. وكان ديوان «بازوليني» اعترافاً أدبياً وفنياً بفضل «جرامتشي» على الفكر، والثقافة الإيطالية المعاصرة. ومن شعراء إيطاليا المبدعين، الذين امتازوا بالخيال الخصب ذي الإيحاءات والظلال المتعددة، الشاعر «الفونسو جاتو».. وفي ديوانه: «قمة الجليد» قصيدة بعنوان «الذكرى المتجمدة» استلهمها الشاعر من لحظات الحرب التي تحررت بها إيطاليا من نير «الفاشية».. ويقول الشاعر الفونسو: آه يا أوربا يا ذات القلب المتجمد كم أود أن يسري الدفء ولكن هيهات فقد احتضن الموت أوربا إلى الأبد! البياض يغطي كل الأشياء ويطمس الحدود فلم تعرف أوربا وحدةً أقوى من الجليد!!