على أيام الحرب البادرة، ذاع صيت جسر بيونيكير الواقع في إحدى ضواحي برلين في الحد الفاصل بين الألمانيتين، كان يتم فيه تسليم وتبادل الجواسيس بين أجهزة المخابرات العالمية التي كانت تتصارع في ساحات النزال بين المعسكر الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي والمعسكر الغربي الذي قادته الولاياتالمتحدة وحليفاتها الأوروبيات. اتّخذت المخابرات الدولية من برلين المقسمة آنئذٍ، ساحة لكل أنواع العمل الاستخباري وفنون الخداع وأساليب التجسس وجمع المعلومات، ولم يكتسب جسرٌ شهرةً مثلما كسب هذا الجسر القريب من بحيرة متوسطة الحجم، ويقع على لسان متفرع منها إلى الشمال الشرقي من برلين يفصل بين شطري البلد الواحد، وعبَرَ مِن فوقه ألوف الجواسيس منذ بداية الحرب الباردة من بداية الستينيات من القرن الماضي حتى توحيد الألمانيتين وسقوط الاتحاد السوفيتي مطلع السنوات التسعين، وصار الجسر بعدها مزاراً ومعلماً سياحياً ومكانًا لاجترار الذكريات لمن تم تسليمهم وتبادلهم هناك بعد أن خرجوا من عالم الجاسوسية ووهن العظم وتعب الجسد وتلاشى أحد الخصمين والقطبين كفقاعة صابون في الهواء... الغريب أن قصة الجواسيس الأربعة الذين سلمتهم السلطات في الخرطوم أمس الأول للسيد ثابو مبيكي رئيس الآلية الإفريقية رفيعة المستوى لتسوية العلاقة بين السودان ودولة جنوب السودان، بعد توسطه للإفراج عنهم، لا تتطابق تماماً مع ما كان يحدث في فترة الحرب الباردة، إنما أشد خطراً؛ لأن حرباً حقيقية لا تزال نارها وآثارها شاخصة وملتهبة، هي التي تم القبض عليهم في أتونها وكانوا يمارسون عملاً تجسسياً عسكرياً كما قالت بيانات القوات المسلحة إن القبض عليهم بالجرم المشهود في منطقة هجليج بعد طرد جيش دولة جنوب السودان منها... ومثّل وجودُهم في هذه المنطقة جريرة واضحة واختراقًا للحدود السودانية ووجودًا غير مشروع ومشبوهًا اقتضى ترحيلهم للخرطوم والتحقيق والتحري معهم ومعرفة حقيقتهم، فلا يصدق أنهم سياح أو موظفون في منظمة طوعية تنشط هناك... لكن الغريب أن حكومتنا دائمًا تُعطي بلا ثمن وتتبرع دون مقابل، أطلقت سراح هؤلاء وأفرجت عنهم إكراماً للسيد أمبيكي الذي جاء لمهمة متعلقة بالتفاوض فإذا به يغادر لجوبا وقد اصطاد مع الفيل أرانب كثيرة على طريقة السيد الصادق المهدي في تعليقه على اتفاق جيبوتي قبل سنوات عندما قال جئت لاصطاد أرنبًا فاصطدت فيلاً... إذا كان هؤلاء الأربعة البريطاني والنرويجي والجنوب إفريقي والأخير من دولة الجنوب، هم يعملون في شركة تجارية في جنوب إفريقيا كما قال السيد وزير الدفاع، فما الذي جعلهم يدخلون منطقة عمليات عسكرية عنيفة لم تصمت مدافعُها بعد وقد فرّت حتى الطيور وحيوانات الغاب من لعلعة الرصاص ودُويّ الراجمات، ولا توجد أية حيثية تجارية أو نشاط طوعي متعلق بنزوح أو مواطنين مدنيين في المنطقة التي وُجدوا فيها.. فالتفسير الوحيد لوجودهم أو بالأحرى ما أعلنته الحكومة في ذاك الحين، أن هؤلاء جواسيس وتوجد أدلة على علاقتهم بنشاط عسكري أو استخباري استطلاعي لصالح دولة الجنوب.. إذا كانت هناك صفقة ما، أو وساطة تم فيها تقدير السيد مبيكي، فما هو المقابل، خاصة أن النرويج وبريطانيا لديهما صلة وثيقة للغاية بما يحدث في علاقة السودان وجنوب السودان، فبريطانيا هي التي زرعت هذه المشكلة في الفترة الاستعمارية السابقة وظلت تؤيد الجنوب في كل مراحل الحرب والتمرد منذ 1955م، بينما لعبت النرويج دوراً لا يزال مستغرباً في قضية المفاوضات التي كان مؤدّاها الأخير هو اتفاقية نيفاشا، والغريب أن هيلدا جونسون وزيرة التعاون الدولي النرويجي خلال مفاوضات نيفاشا هي الآن ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في جوبا، كي ترعى هذا المولود الذي وُلد من رحمها السياسي.. نقدِّم السبت دون أن نجد الأحد، أفرجنا عن الجواسيس دون أن نجد حتى اعتذاراً ودون مقايضتهم بأي معتقل في الجنوب مثل تلفون كوكو أو غيره من السودانيين، كما تفعل كل دول العالم أو كما يتم في جسر برلين الشهير!!