كشف وزير الدفاع ورئىس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون عن لقاءاته بالرئيس جعفر نميري في القاهرة خلال تشييع جنازة السادات. كان ذلك هو اللقاء الأوَّل بينهما. وفي 13/مايو1982م تمّ لقاء شارون بجعفر نميري في العاصمة الكينية نيروبي. ذلك هو اللقاء الثاني بينهما. ثمّ كان هناك اجتماع ثالث آخر بين شارون ونميري، حيث كان مقرَّراً في الإسكندرية. ولكن لم يتم الإجتماع الثالث لم يتم بسبب تورُّط اسرائيل تورطاً عميقاً في غزو لبنان عام 1982م. تحدث آرييل شارون في مذكراته التي حملت إسم (المغوار) عن لقاءاته السِّرية بالرئيس جعفر نميري (ضرغام الرجال الفارس الجحجاح). حيث وصف شارون في مذكراته جعفر نميري بأنه (رقيق ومؤدَّب للغاية). في اللقاء الثاني بين شارون وجعفر نميري في نيروبي - كينيا بتاريخ 13/5/1982م، تضمنت أجندة اللقاء استهداف القذافي، وتدريب المعارضة المسلحة، لإسقاط ثورة الخميني، أما البند الثالث فقد وصفه شارون في مذكراته بأنه موضوع يهمُّ السودان وإسرائيل بدرجة وثيقة. قال شارون (كان هناك موضوع آخر يهم السودان وإسرائيل بدرجة وثيقة، تمَّ بحثه بيني وبين نميري في ذلك اليوم 13/5/1982م، في فترة مابعد الظهر. موضوع ظلت الحكومة الإسرائيلية في الأربعة أعوام الأخيرة تتابعه عن كثب وباهتمام أليم. كان ذلك الموضوع يهمني أكثر من كل النقاط الأخرى في أجندة إجتماعي ب «جعفر نميري». كان ذلك هو موضوع اليهود الفلاشا. إذ أن تدفُّق مئات الآلاف من اللاجئين الاثيوبيين من جبال أثيوبيا إلى شرق السودان، تضمَّن سيلاً مستمراً، من اليهود الأثيوبيين «الفالاشا» إلى الأراضي السودانية. حتى في وسط اللاجئين الأثيوبيين المتشردين بلا ديار، من ضحايا الحرب الأهلية الأثيوبية، كان «الفالاشا» منبوذين مضطهدين. ولكنهم لم يكونوا كغيرهم من اللاجئين، إذ كان باستطاعتهم أن يحتضنوا أحلام الحياة، في ما وراء معسكرات اللاجئين السودانية المتجهِّمة. منذ عام 1977م، ظللنا ننقل الفلاشا، بهدوء وفي مجموعات صغيرة، من أثيوبيا إلى إسرائيل، في عملية دقيقة وخطيرة للغاية، إذا وضعنا في الإعتبار العداء العنيف لإسرائيل من قِبَل النظام الأثيوبي وولاءات السودان العربية الإسلامية. وتباحثت في موضوع الفالاشا مع جعفر نميري، وحثثته على أن يتأكد من أن تتمّ معاملة اللاجئين الفالاشا بعناية، وألا يؤذوا على أى نحو. وسألت جعفر نميري إن كان بإمكانه ان يمنحنا الفرصة ل«تسفيرهم» من الخرطوم بواسطة الطائرات. كانت تلك هي المرة الأولى التي أصبحت فيها دولة إسرائيل قادرة على «فتح موضوع» الفالاشا على ذلك المستوى. كيف ستكون استجابة نميري؟. هذا ما لم أكن أعلمه. وقد تعاظمت مخاوفي بسبب حقيقة أنَّ هناك في نفس اللحظة تماماًَ كانت تجري عملية سريّة معقدة للغاية، لجلب عدد كبير من اللاجئين الفالاشا خارج السودان. غير أنّ كل تلك المحاذير والتنظيم الذي بُذل في تلك العملية السرية المعقدة، جعل من المستحيل تغيير توقيتها، لذلك كانت العملية السرية لنقل الفالاشا تتقدم إلى الأمام، برغم اجتماعي، في نفس اللحظة، مع جعفر نميري، وبرغم مخاطرة الحرج الكبير الذي سأواجهه إذا حدث خطأ ما. أما الموضوعات الأخرى التي تباحثت فيها مع جعفر نميري، فقد كان موضوعات مألوفة لأولئك الإسرائيليين الذين يعرفون الجانب الأكثر هدوءاً في السياسة الخارجية التقليدية لإسرائيل. كتب آرييل شارون في مذكراته(المغوار) عن لقاءاته مع جعفر نميري، وذلك في صفحات (408-422). غير أن الرئيس نميري لم يكتب مذكراته حتى رحل إلى دار البقاء وبقيت الرواية المتداولة عن لقاءات شارون بجعفر نميري، هي رواية شارون. فقد آصبحت هي المرجع الوحيدة. أيضاً لم تكتب طواقم الديبلوماسيين وضباط الأمن السودانيين الذين كانوا من حول النميري. وكان من الممكن أن يقدِّموا شهادتهم للتاريخ، فيلقوا الأضواء ويضعوا النقاط على الحروف. وهؤلاء معروفون بالإسم. علاقات إسرائيل بالسياسيين السودانيين ظلت دائماً يتمَّ العلِم بها والتعرّف عليها عبر الكشوفات الإسرائيلية عن علاقاتها السودانية، أو عبر التقارير الصحفية الإسرائيلية في أحيان عديدة. ومن ذلك أن (بونا ملوال) ذات مرة صرَّح من مقرّ إقامته في أكسفورد بانجلترا في يونيو 1997م، لصحيفة (هآرتس) الإسرائيلية، وأطلعها على (النجاحات العسكرية المثيرة)، للمتمرد جون قرنق، مضيفاً (ولكن ليس لإسرائيل ضلع فيها هذه المرة خلافاً للسابق)، (وهآرتس) تصف عمله بالكفاح من أجل الجنوب. وزار بونا ملوال تل أبيب قبيل منتصف 1997م، للمشاركة في مؤتمر حضارات النيل، حيث حلَّ ضيفاً على (غباي فيربورغ) الخبير الإسرائيلى في الشؤون السودانية. وجملة (خلافاً للسابق) التي فاه بها السيد/ملوال لصحيفة (هآرتس)، تدعو إلى النظر في تاريخ ومدى وعمق التغلغل الإسرائيلى في السودان. وقد كشفت صحيفة (هآرتس) في أكثر من حين جانباً من ذلك. فقد كتب (يوسي مليمان) في (هآرتس) الصادرة بتاريخ 1/7/1997م، أن (حنان بار أون) رجل الموساد، وأحد كبار موظفي وزارة الخارجية، قد كشف أموراً ألقت أضواء جديدة على إحدى المسائل الغامضة في تاريخ السياسة الخارجية والأوساط الإستخبارية الإسرائيلية، وهي نشاط اسرائيل في السودان. جاءت (الكشوفات الإسرائيلية) التي قدمها (حنان بار أون) في برنامج بثه التلفزيون العبريّ، في الذكرى السنوية التاسعة والأربعين لقيام دولة إسرائيل. حيث في 15/مايو 1997م بث التلفزيون الإسرائيلي القناة الأولى، فيلماً وثائقياً حول (رؤوبين شيلوح) الذي كان أحد الذين بلوروا السياسة الخارجية الإسرائيلية، ومن الآباء المؤسسين للإستخبارات والتجسس. في هذا الفيلم الوثائقي تحدث (حنان بار أون) باختصار عن مهمته السّريّة مابين عامي 1958م - 1960م في القرن الأفريقي. وخلال مقابلة أجراها مع (هآرتس) توسَّع في الحديث عن أحداث تلك الفترة، التي بلغت ذروتها الدراماتيكية، عند تولِّى الرئيس ابراهيم عبود السلطة في السودان في 17/ نوفمبر 1958م. وأرغم ذلك التغيير في السودان (بار أون) في مكان اقامته في أديس أبابا، على الجلوس إلى جانب جهاز (الراديو)، نظراً لقلقه على مصير رجال (الموساد) في محطة الخرطوم. ويشير (يوسي ميلمان) إلى أهمية السودان (العربي ذي الأغلبية الإسلامية) بالنسبة إلى إسرائيل، أهمية كبيرة، إذ يطل، على الطريق إلى (باب المندب) المؤدِّي إلى (إيلات) بحرياً، ويشكِّل جناح جنوب شرقي لمصر، العدو الأكبر الرئيس لإسرائيل، وفي أجواء العزلة التي كانت تمرّ بها إسرائيل قبل (40) سنة، فكلّ صِلة سرية أو علنية مع دولة عربية، كانت تُعتبر انجازاً سياسياً استراتيجياً من الدرجة الأولى. كان (حنان بار أون) في ذلك الحين ممثلاً للموساد في أثيوبيا، وعمل في القنصلية الإسرائيلية في أديس أبابا. يُذكر أن بلورة المنهجية والتوجُّه الإستراتيجي الإستخباري الإسرائيلي، تمَّت بدرجة كبيرة بناءً على فلسفة ووجهة نظر هي جزء من هذه الفلسفة. حيث ترى تلك المنهجية أن إسرائيل محاطة بالدول العربية والإسلامية المعادية، ولذلك يتوجَّب عليها أن تبحث عن حلفاء في الدائرة الخارجية خلف الدائرة العربية المحيطة في الشرط الأوسط، وفي أواسط الأقليات العرقية في الدول العربية والإسلامية. وفقاً لهذه المنهجية الإسرائيلية الإستخباراتية، أصبحت تل أبيب تنظر إلى المسيحيين في السودان، بمثابة رصيد احتياطي للصداقة والتحالف، وهي نفس نظرتها إلى الأكراد في العراق والدروز في سوريا والأقليات المسيحية في لبنان. وخلال الأسبوع الذي شهد انقلاب الفريق إبراهيم عبود في 17/نوفمبر 1958م أجرى (رؤوبين شيلوح) زيارة سريّة الى أثيوبيا. وكان (رؤوبين شيلوح) قد ترك الموساد في سبتمبر 1952م، وحلّ محلّه (ايسار هارئيل) الذي كان يعمل في ذلك الحين مستشاراً لوزارة الخارجية. وأثناء انقلاب الفريق إبراهيم عبود أصغى (شيلوح) و(بار أون) إلى التقارير حول إزاحة حكومة رئيس الوزراء عبدالله خليل البرلمانية بانقلاب عسكري. يُذكر أن عبدالله خليل (حزب الأمة) كان قد التقى وزيرة الخارجية الإسرائيلية (غولدا مائير) في باريس عام 1957م. كيف تحوَّل عبدالله خليل من مناضل وطني في ثورة اللواء الأبيض وتحالفها النضالي مع مصر، إلى عداء مصر والتقاء الإسرائيليين!. كيف تحوَّل (الإتحادي) العتيد مائة وثمانين درجة. وشعر (شيلوح) و(بار أون) بالقلق على مصير شخص كان في تلك الفترة في مهمة استخباراتية إسرائيلية في السودان. ورفض (حنان بار أون) في الفيلم الوثائقي الذي بثه التلفزيون الإسرائيلي القناة الأولى، رفض بإصرار كشف هوية ذلك الرجل الذي كان في مهمة استخبارية إسرائيلية في السودان. رغم أن الرجل قد مات قبل سنوات كثيرة وليس لديه إقارب. وكل ما كان بالإمكان كشف النقاب عنه، هو أن ذلك الشخص (الجاسوس الإسرائيلي في السودان) كان يشارك في إدارة الشؤون الأمنية والإستخباراتية في إسرائيل، وغادر إسرائيل لأسباب شخصية باتجاه اوربا ومن هناك انتقل إلى السودان. والمصلحة التي مكَّنت ذلك المبعوث الإستخباري الإسرائيلي إلى السودان من الوصول الى الخرطوم، كانت خشية الحكومة السودانية برئاسة عبدالله خليل (حزب الأمة) من نظام عبدالناصر في مصر، ونتيجة للإتصالات السابقة حينها والتي بدأت عام 1954م، حيث التقى من حزب الأمة (X) وعدد من الأسماء المعروفة في الحزب، في لندن بمسؤولين إسرائيليين. حيث بدأت أول اتصالات بين السودان وإسرائيل عام 1954م، من الذي بدأها. يمكن أن نعرف ذلك لاحقاً. في الخمسينات، في عهد حكومة السودان (حكومة حزب الأمة) التي كانت تخشى من نظام عبدالناصر، كانت بداية التغلغل الإسرائيلي في السودان، ووصول أول مبتعث إسرائيلي استخباري، ووصول أول جاسوس إسرائيلي إلى السودان. وقد كان ذلك برضى الحكومة السودانية في ذلك الوقت، وبسبب مخاوفها من عبدالناصر ونتيجة لاتصالات بدأت عام 1954م بين قياديين سياسيين سودانيين من حزب الأمة وإسرائيل. في حلقات قادمة، يمكن أن تتواصل الكشوفات الإسرائيلية التي نشرتها صحيفة (هآرتس) في 1/7/1997م، عن علاقات إسرائيل السودانية وتغلغلها في السودان.