((نصر هلال قمة القمم العربية))    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات حية مع خلية انقلابية..خفايا محاولة 2006م
نشر في الانتباهة يوم 23 - 05 - 2012

عبر هذه المساحة يكتب الأستاذ عصام محمد أحمد «سيناريو» واقعيًا عاش أحداثه لحظة بلحظة في إحدى الشقق بقصر عابدين بالقاهرة، حول ملابسات المحاولة الانقلابية التي جرت وتم وأدها في الرابع عشر من يوليو 2006م وتم العفو عن المتهمين فيها بواسطة رئيس الجمهورية في العيد الثاني والخمسين للاستقلال.هذه المحاولة كذبتها الولايات المتحدة والمعارضة السودانية لكن الوقائع هنا التي يسردها الأستاذ عصام لقطع الشك باليقين.والغرض من نشر هذا السيناريو هو تأكيد أن حمل السلاح لن يحقق الاستقرار في السودان وأن طريق الوصول إلى السلطة مهما طال المسير هو العمل السياسي الرشيد والصبر والمثابرة... إلى تفاصيل السيناريو.
غاب فجأة وطال غيابه بما يكفي لأن يتسلل القلق إلى نفسي وتعتريني المخاوف.. ما الذي حدث.. تركته بألف خير.. آخر مرة افترقنا فيها أوصلني حتى محطة رمسيس.. عندما بدت عليه ملامح حزن لم أستطع أن أجد له تفسيراً وقتذاك.. فلما امتد غايبه أكثر من حد المعقول انتابني ما يشبه الضياع والإحساس بالتوحش.. حتى صوته الذي كان ينساب عبر الأثير بين الحين والحين اختفى هو الآخر ولم أعد أسمع حتى رنين هاتفه الجوال الذي أصبح دائماً في وضع المغلق.. عندها تملكتني الوساوس. وبصعوبة بالغة توصلت إلى رقم شقيقته.. فاتصلت ردت عليّ والدته بعد زمن حسبته دهراً.. تحدثت بنبرة صوت مريض وفيه حشرجة أشبه بالبكاء.. ورمت الكلام على علاته كالقذيفة.. صاحبك معتقل.. بأي تهمة؟.. تهمة الاشتراك في الانقلاب المتهم فيه مبارك الفاضل.. وأنا الذي حسبت أنه ما زال هناك بأم الدنيا.. تركتها وكان هو آخر من شاهدت فيها، وأنا أتجه بالقطار جنوباً.. وبدأت الأفكار تتقافز في عقلي الصغير وهامش الصبر الذي كنت أختبئ وراءه بدأ ينهار.. وبدأت أتساقط مثل أوراق الشجر بدايات الخريف.. وجلست بهدوء أعيد شريط أحداث رحلتنا من هنا إلى هناك ثم العودة مرة أخرى.. تلك الرحلة التي بدأت تفاصيلها بدايات صيف أرعن في الفاتح من يوليو 2006م.. في الواقع هو من أقنعني بجدوى هذه السفرية للهروب بمشكلات حياتنا وبعض ترويح عن النفس وأشياء أخرى مشتركة بيننا، وبدأت خيوط الحكاية تتشابك وتتضح معالمها شيئاً فشيئاً إلى أن اكتملت تماماً.. إذن كنت أنا ضمنهم كل تلك الفترة.. وكل تلك الأيام أمشي بينهم آكل وأشرب وأسكن معهم ونسهر معاً يحتوينا ليل القاهرة الفاخر ونستمتع بسياحة نهارية نخترق فيها جدار التاريخ إلى الأهرامات.. كنت معهم.. صدقوني أنا لا أكذب ولا أتجمل ولا أدعي شرفاً لا أستطيع أن أناله.. شاركت في ذلك كله على الأقل أدبياً.. ليس مهماً كيف كان شكل المشاركة.. المهم هو روح المشاركة نفسها.. والخبرات الانقلابية التي يُفترض أنني اكتسبتها نهاية الأمر.. حضرت أغلب المناقشات التي كانت تدور في فلك القضايا السياسية العامة للبلد.. والتي ساهمت بعد ذلك بشكل كبير في تكويني وتشكيلي وصقلي سياسياً.. الفارق الوحيد بيني وبينهم أنني لا أستطيع أن أهضم حكاية أن أقدم رأسي وروحي على كفي ثمناً ليصبح فلان أو غيره رئيساً لجمهورية السودان.. إنه ثمن أغلى من أن يستحقه المتسللون للسلطة عبر قوة السلاح بعد أن يئسوا من الوصول إليها عبر قوة إرادة الشعب، هكذا إذن كانت الأمور تمضي.. خلف الكواليس.. التي تجلس أمامها تستشف منها صناعة الأحداث.. وللمدني في مثل هذه الأمور حضور أكثر من العسكري لأنه يفكر ألف مرة قبل أن يضع خطواته في المكان الخطأ.. الذي في الغالب قد يكلفه رأسه، لذا فإن نسب الإخفاق تنعدم عنده تماماً عكس العسكري الذي يبدأ بتنفيذ التعليمات أولاً وقبل أن يفكر في الخطوة التالية يكون الخطأ قد وقع وأطاح رأسه على محك رمح أو تحت نصل سيف سيان.. ولم تكن رحلتي من هنا إلى شندي ضمن الخطة ولا للتمويه أو التشويش على قدرات البصاصين، كل ما في الأمر أن الاشتياق غلب إلى رفيقي جعفر عبد الرضي فمررت فقط لإلقاء التحية وقضاء ليلة هناك والرحيل باكراً شمالاً عبر القطار إلى وادي حلفا.. توطئة للسفر إلى أم الدنيا.. كان ذلك بالضبط هو برنامج رحلتي.. أو بالأحرى رحلتنا.. ولم أكن حريصاً لأتحرى عن الأسباب الوجيهة التي جعلته يتخلف عنا يومذاك.. ولكننا على كل حال عدنا والتقينا بعد ذلك باسبوع بوادي حلفا.. وهناك في محطة رمسيس القاهرة التقى الجمع وكأنما رفع التمام للقيادة لا يمر إلا عبر بوابة محطة مصر.. وكأنهم وضعوا عندها اللمسات الأولى لساعة الصفر أو العد التنازلي للعملية إذا ما قُدِّر لها أن تمضي في خططها قدماً دون عوائق أو مفاجآت.. كل ذلك كنت جزءاً غير أصيل منه لأن الذين كنت أعاشرهم رأوا أن ذلك أفضل لي ولهم.. وكانوا شديدي الولاء للسرية حذرين في تعاملهم مع الغرباء مفرطي الحساسية والحرص حينما أكون معهم داخل الشقة والتي تحتل الطابق الثالث في بناية تلاصق المبنى الإداري لمحكمة الأسرة بحي عابدين العتيق.. في ذلك الوقت سجلت في دفتر يومياتي ملاحظتين أولاهما أن كل من لاقيتهم هناك كانوا من الضباط المتقاعدين من الرتب المختلفة بالجيش من الملازم وحتى اللواء.. وهذا الأمر بالذات لم يكن محل اهتمام استثنائي لأن رفيقي نفسه كان واحداً منهم كانوا زملاء مهنة واحدة وثانيها أن ثمة قاسمًا مشتركًا يجمع بينهم.. نقطة التقاء أيدلوجياتهم تتمحور حول مقاومة ما يسمى تهميش المركز وتحقيق العدالة الاجتماعية وأغلبهم عمل ضابطاً بأحد الألوية في ولاية من ولايات التماس الحدودية المعروفة.. كانوا يجتهدون حتى لا أحس بتسللهم واحداً بعد الآخر خارج الشقة.. ينطلقون في غارات ليلية إلى الأماكن العامة ربما كورنيش النيل أو فوق كبري ستة أكتوبر.. لأن الأجواء في الخارج كانت تناسبهم أكثر من رفقة فضولية ربما كانت عيون الحكومة عليهم وربما كنت أنا ذلك الفضولي وتلك العيون.. المهم المحافظة على نفس القدر من السرية.. ولكن ذلك لم ينتقص من أمر مشاركتي لهم دون أن أنال لقب مشارك فعلي في صناعة تلك الأحداث إلا بمساحة تشبه مساحة اشتراك محمود ياسين في صناعة أحداث ثورة يوليو في مصر في مسلسل سوق العصر الشهير.. وبمناسبة ثورة يوليو وعن جدلية تعريف الثورة أو الانقلاب فنّد صاحب عبد الناصر ومنظر ثورته د. محمد حسنين هيكل نظرية العمل العسكري على الأنظمة الشمولية وما في حكمها من تحكم الفرد والجماعة استئثاراً وقوة كثورة بينما صنف الانقلاب على عكس ذلك تماماً، أي الضيق بالشرعية الديمقراطية.. أي أن يقوم الانقلاب على أنقاض حكم الشعب، والآن وقد انتهى كل ذلك ومضى زمن بكل المقاييس يعتبر طويلاً منذ أن شمل العفو الرئاسي الجميع.. حتى لو كان ذلك نتيجة ضغوط سياسية أو جاء لاعتبارات موازنات قبلية المهم أن الرئيس أعلن العفو عنهم أمام الملأ في حشد من الناس بالساحة الخضراء وعلى رؤس الأشهاد، وبالتالي أُسقطت كل تلك التهم المتعلقة بالاشتراك لتعريض أمن البلاد للخطر ومحاولة قلب نظام الحكم بالقوة.. ولا مجال للتراجع عنه بعد كل هذه السنوات ولا يضير أحداً استدعاء بعض الذكريات بين الحين والحين.. وكادت الحكاية تنتهي.. أو انتهت فعلاً حينما ذهبت أبحث عنه فوجدته يتوسط أهل بيته يملأ المكان كعادته صخباً وضجيجاً.. وكأنه لا علاقة له بذلك الإنسان الذي خرج لتوه نتيجة عفو رئاسي من حكم بالإعدام هرول باتجاهي.. قال وهو يعانقني.. أتعلم طوال تلك الشهور في المعتقل كنت حريصاً على ألا أدعهم يصلون إليك على الأقل بسببي.. أخلاقي منعتني أن أدلي بأي معلومات بشأن إنسان كان في قلب الأحداث ولم يشارك في صنعها لا من قريب ولا من بعيد.. حمدت الله كثيراً على ذلك.. فقد كبرنا وهرمنا وأخذ منا المرض كل ما أخذ ولم يعد في خياراتنا مقاومة النظام بالقوة لأننا بكل تأكيد لن نستطيع تحمل تبعات ذلك من بهدلة الجلوس طوال اليوم أمام المحققين.. وكما ترون.. وحتى لا يتململ البعض.. كنت فعلاً موجوداً باستمرار في نفس المكان ولكني لم أشهد تفاصيل الحكاية ولم أسمع عنها إلا بعد أن أُسدل الستار عن آخر فصولها بعد المحاكمة والعفو الرئاسي.. قلت له معاتباً كيف تسنّى لك أن تخدعني كل هذه المدة.. قال: أتذكر حينما سألتك البقاء معنا أسبوعاً آخر بالقاهرة.. ولكنك اعتذرت؟ قلت: نعم، قال: وقتها كنت أحاول التمهيد لمقابلتك بالعميد «أ.أ.» منسق العملية، فهو الوحيد الذي يملك الصلاحيات لاختيار الخلايا العسكرية أو حتى المدنية لأنه الوحيد الملم بحاجة العملية للكوادر المساعدة لتنفيذ المهام المعدّة أصلاً.. وتم تحديد قياداتها قبلاً حسب الرتب والإمكانات.. الأمر كله أُعد له بشكل مرتب بحيث سُدّت كل ثغرات احتمالات الفشل، ومع ذلك فوجئنا قبل أيام من ساعة الصفر الذي حدد له الساعة الثانية ظهراً ساعة تبديل الحرس والورديات بالجيش في ذلك اليوم والأجهزة الأمنية تعتقلنا وأسقط في يدنا بعد تساقط الشبكة واحداً تلو الآخر.. تأكدنا بعدها أننا اختُرقنا بواسطة زميل لنا كان ما يزال آنذاك بالخدمة.. فكشفنا وتسبب في فشل العملية بشكل مباشر، قلت له: بالله احكِ لنا عن البداية منذ أن كانت فكرة.. قال: كنت في الواقع أول حلقة لتجميع المشاركين من الرتب المختلفة.. وكان هذا مسار التحقيقات طوال فترة الاعتقال.. كان المحققون لا يملون من توجيه الاتهام إليّ بإصرار بأنني كنت المسؤول عن تكوين خلايا الضباط وتجميعهم بالقاهرة ومن ثم اصطحابهم إلى هنا.. وكنت أنكر التهمة باستمرار واعتبار أن الأمر محض صدفة.. وكل إنسان عاقل وبالغ مسؤول عن تصرفاته وتحركاته.. ولا يمكن بأي حال أن يُحسب الأمر عليّ.. وكانت البداية عندما اتصل بي أحد القادة من بلجيكا وعرض علي الأمر كله.. قلت له صراحة إن هذا الأمر أكبر من رتبتي وإمكاناتي.. وإنني على استعداد أن أجند لكم قائداً يحمل المواصفات التي تريدونها.. كان في خاطري وقتها العميد «م» «أ.أ.» بحكم معرفتي القوية به وإلمامي بظروف إبعاده عن الجيش والضغينة التي كانت تملأ صدره تجاه ذلك وتجعل منه مرتعاً خصباً لتلقي الأفكار الانقلابية على الوضع القائم بانتهازية مفرطة.. إلا أنهم طلبوا مني أقصى درجات الحذر في التعامل معه والتمهيد لذلك أولاً لأن الأمر شديد الحساسية ولا بد من الالتزام بأكبر قدر من السرية.. واستطعت في أقل من أسبوع أن أجنده ليقود العملية.. وبدأنا في فتح محاور وخطوط التقاء متباعدة الأماكن والتواريخ.. فمرة نلتقي بمكتب تجاري في قلب السوق الإفرنجي وأخرى نجتمع بمكتب محامٍ مشهور وسط السوق العربي الخرطوم.. وبدأت معاناتنا الأولى مع التمويل.. حيث كنا نمول الأعمال الصغيرة مثل تصوير المستندات والطباعة من جيوبنا وعرّضنا أنفسنا للخطر أكثر من مرة بسبب سوء قنوات التمويل.. كنا مثلاً نترصد محلات التصوير ليلاً.. وننتهز الوقت المناسب للتصوير أثناء الازدحام أو بوجود فتاة على الماكينة لقلة فضولهن فيما يتعلق بالنظر لمحتويات ما يقمن بتصويره.. أما التمويل الأكبر للعملية فقد كان محل جدل مستمر فقد عرض عليّ العميد «أ.أ.» بالقاهرة مرة تمويلاً من الموساد الإسرائيلي، ولذلك قصة لا يسع المجال هنا لذكرها.. إلا أنه والحق يقال إن الرجل رفضه بشدة وقدم في ذلك حججاً قوية ومقنعة، قال: لن نحمل على أهلنا وإخوتنا بأموال إسرائيلية حتى لو تركنا الأمر كله وحتى لا نكون «عرة» الناس ولا نرتهن قرارنا وإرادتنا لهم طوال حياتنا.. وحتى لا ننسى أن قضيتنا المركزية ليست الخرطوم ولكن هي القدس.. أما الموساد فقد قال مندوبه للعميد آنذاك إذا رفضت تمويلنا فهنالك غيرك من هو على استعداد لقبوله.. انتهت تلك المقابلة برفض التمويل الموسادي والذي قبله فعلاً المتمرد عبد الواحد واستقطع جزءاً منه ليفتح مكتباً لحركته بتل أبيب.. حسب رواية العميد «أ.أ.» نفسه.. بعد ذلك طلب مني العميد الاستعداد للسفر إلى الكفرة الليبية لاستلام تمويل من القذافي إلا أنه لسبب ما زلت أجهله تم تغيير البرنامج حيث بُعث أحد الزملاء ليحل محلي، والذي أقر لنا فيما بعد بأنه ذهب فعلاً واستلم عملة سائلة نقدية بأرقام كبيرة وذخيرة وأجهزة اتصالات وعربات وسلمها للسياسي المعروف «م. ف.» مباشرة.
قلت له دعك من هذا كله وحدثنا عن الأهداف والبرنامج الذي قامت عليه الفكرة نفسها.. قال: الأهداف كانت محددة بدقة، والبرنامج الموضوع يحتاج لأيام لشرحه ولكنني سأحاول أن أقتصر على الأهم.. كان مقلداً حسب البرنامج الذي أقسمنا فيه بشرفنا على الالتزام بما جاء فيه وهو ألا نبقى في السلطة أكثر من عام واحد ننظم بعدها انتخابات حرة وديمقراطية نسلم بموجبها السلطة طوعاً للرئيس المنتخب.. وعن التنظيم الإداري بالعاصمة كان برنامجنا العودة لنظام المحافظات الثلاث القديم لحسم ملف وإيقاف المد الأفقي للمناصب الدستورية والهيكل الوظيفي للقيادات الإدارية العليا الحالي.. أما أهم البرامج على المستوى السياسي داخلياً فقد كان إلغاء اتفاقية نيفاشا ومنح الجنوب حكماً ذاتياً.. لأننا كنا نستقرئ الأحداث من واقع أننا كنا جزءًا منها نشكلها وتشكلنا.. بصدق كنا نتوقع ما يحدث الآن قبل أكثر من ستة أعوام، كنا بحق نود تركيز التنمية على الولايات الفقيرة التي تنعدم فيها الإيرادات وتتعايش على هامش ما تتصدق به المركزية بما تسميه مال التنمية.. كان هدفنا أن نخلق لها أرضية اقتصادية صلبة تشجع أهلها على الرغبة في الهجرة المعاكسة.. والعودة الطوعية.. وكان في خاطرنا دائماً ولايات دارفور وكردفان، ولو قُدِّر لنا أن ننجح كنا ننوي تغيير شكل نظام الحكم والعودة إلى نظام الأقاليم الخمسة.. إبان بدايات مايو كان هذا السودان الواسع الشاسع المترامي الأطراف بكل موروثاته الاقتصادية والثقافية والاجتماعية مقسماً إلى خمسة أقاليم.. الإقليم الشمالي والجنوبي والشرقي والغربي والأوسط وعلى رأس كل إقليم حاكم واحد ومساعدون من التنفيذيين.. ولا يشكلون جلهم وبمخصصاتهم عشرة بالمئة من تكلفة إدارة ولاية واحدة بالوضع الحالي الذي وصل عددها على ما أحاول أن أذكر حوالى العشرين ولاية باستثناء الجنوب الذي انفصل غير مأسوف عليه.. ثم بدأ يتململ في جلسته يبدو أن دوره قد حان في النمرة سألته عن العميد «أ.أ.» عراب الانقلاب، قال وهو يتأمل اللاشيء ويرنو بنظره نحو الأفق بعيداً.. كان خارج ولاية الخرطوم حين كشف عن المخطط وسمع بأمر اعتقالنا.. فغادر من مكانه إلى إثيوبيا ومنها انضم إلى حركة العدل والمساواة.. وأخيراً وصلتنا معلومات أكيدة عن مقتله في معركة بين الجيش وقوات الحركة بدارفور.. كان يحكي ويعتقد أنها مجرد دردشة وكانت ذاكرتي تعمل لتسرق هذه الذكريات فجأة قال.. ماذ دهاك حتى تستدعي تلك الذكريات القديمة الأليمة؟ ما الذي حفزك لترمي حجراً في بحيرة الأسرار الساكنة منذ زمن؟ لقد وُجِّهت لنا آنذاك اثنتا عشرة تهمة أي واحدة منها تساوي حكماً بالإعدام، وقد مضى زمن منذ نلنا العفو الرئاسي فلماذا تسعى لإيقاظ هذه الأحداث الآن.. حاولت أن يفهم أن التاريخ ليس ملكاً لأحد ولكنه لم يزل يتمسك بخوفه، ودائماً ما يتحدث عن الأمثال السودانية القديمة أمثال الضاق قرصة الدبيب بخاف من هبشة الحبل.. في نهاية الأمر هذا السرد المقتضب لتلك الأحداث الدرامية التي تعبِّر عن واقع حال حدث ذات يوم.. هي بالتأكيد ليس من وحي خيال كاتبها فأصحابها ما زالوا يعيشون بيننا يمارسون حياتهم بشكل عادي انغمسوا في الحياة اليومية للمجتمع وأصبحوا جزءاً أصيلاً منه إلا أنهم يُعتبرون حالة استثنائية جداً.. حدثني صاحبي عن أحد المشاركين في صنع تلك الأحداث اتصل عليه قبل أيام من ود مدني وهو من الرتب العليا في المعاش طلب منه تحويل مبلغ عشرين جنيه ثمن تذكرة البص من هناك ليصل إلى بيته بالخرطوم فهو مقطوع هناك.. بقي أن يعرف الجميع أن صاحبي الذي يختزن هذا الكم الهائل من الذكريات لم أشأ أن يعرف أن ما حدثني عنه بعد عدة أيام سيُنشر على الملأ لأنه ظل يحدثني عن التزامات أسرية وأقساط لأصحاب الحافلة التي يدور بها في طرقات الخرطوم طوال النهار يحمل الركاب من محطة إلى أخرى.. وعندما يأتي المساء يترجل إلى بيته تعباً مكدوداً يتدثر بتلك الذكريات يتسول النوم.. دفعته ما زالت بالجيش برتبة المقدم.. سألته بعد أن اقتربت ساعة الوداع.. لو قُدِّر وعاد الزمن إلى الوراء.. هل كنت تشارك في مثل هذا العمل مرة ثانية.. نظر إليّ شذراً تبعها بنظرة أخرى فاحصة وكأنه يشاهدني لأول مرة ثم مضى بعيداً نحو حافلته وعلى شفتيه تبدو ابتسامة غامضة سمعته وهو يتمتم ساخراً أنسى.. وقد نسيت فعلاً.. تركت الباب موارباً وتسرعت خطوط التواصل بيننا ليدخل منها ليوثق عن كواليس تلك الأحداث ويسجل حضوراً بتوقيعه على دفتر التاريخ كواحد من صناع تلك الأحداث والمسؤولين عن إدارتها.. قلت له بينما يتحرك بحافلته.. يا صاحبي انتهى زمن قبر الناس بأسرارها ودفن الأحداث مع أصحابها فتعال معي.. فأبى.. وأنا أبيت إلا أن أسجل هذا الحضور لعل فيه استخلاصًا للعبر والدروس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.