إن هذه الفتوى تحل الربا للدولة بشروط ثم تترك الأمر في أيدي ولي الأمر أو من يفوضه في تقدير الضروريات حسبما أوردت في استعانتها بالفتوى التي أصدرتها لجنة مختصة ببيان عناصر الضرورة المبيحة للاقتراض بفائدة «أي بربا». وأول مظاهر الوهن أن اللجنة تخفي اسم الربا وهي تجتهد في إصدار فتوى بشأنه وتسميه الفائدة مع أن اسمه في كتاب الله وسنة رسوله هو الربا. ما هي الشروط التي أوردتها الفتوى لتجيز على أساسها الربا للدولة: قالت أولاً: 1/ استنفاد كل الوسائل في الحصول على مصادر تمويل مقبولة شرعاً من داخل السودان أو خارجه.. إن هذا الشرط وحده كافٍ لإبطال الفتوى.. لأن المصادر هذه موجودة ومتوفرة وميسرة وبالمليارات.. وهي مبذولة للسودان.. بل جاءوا إلى السودان ومنهم من أسس عملاً وشرع في تسويق نفسه.. وبقي أن نعرض عليه رؤيتنا للاستثمار الذي يربط بين التمويل والتنفيذ على أن يكون المشروع في شكل مقاولة بين الطرفين بالشروط والترتيبات المعقولة وبدون ربا. هذا هو الذي يجري اليوم.. اللهم إلا إذا كانت الهيئة العليا للرقابة الشرعية تنتظر من هذه البيوت التمويلية أن تنشر إعلانات تستدعي فيها أصحاب المشروعات وتغريهم بأنها تمول على النظام الإسلامي وبدون ربا.. يقول الشرط الثاني: 2/ أن تقدر هذه الضرورة بقدرها زماناً ومكاناً وكماً وكيفاً دون تعدٍ أو زيادة في كل حالة على حدة هذا هو ما تقوله اللجنة ومعلوم أن عبارة الضرورة تقدر بقدرها أُخذت من النص القرآني من قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد) أو (غير متجانف لإثم).. والمدهش أن هذه العبارة وردت في سياق آيات رخصة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله وذلك في سورة البقرة.. ثم جاءت العبارة الثانية في سورة المائدة في معرض سياق رخصة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله وأضيف إلى ذلك المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب إلى آخر الآيات.. ثم ختم قائلاً جل وعلا: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم).. ثم وردت الرخصة مرة أخرى في سورة الأنعام في رخصة الأكل مما حرم الله قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) فهي في الطعام أيضاً.. ووردت الرخصة مرة أخرى في سورة الأنعام: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه).. ثم ختمها جل وعلا بقوله: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم).. ويتكرر ذات المعنى والسياق في سورة النحل متعلقاً بالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إن الشيء الذي لم تتحسب له الفتوى هو أن هذا القدر من الضرورة ما ينبغي أن يناط بأمره وتقديره إلى الجهات صاحبة الحاجة بل ينبغي أن يوكل إلى لجنة محايدة ومبرأة قدر المستطاع من التأثيرات والاتهامات.. أما الشرط الثالث فهو أخطرها وأوهاها وهو الثغرة التي سوف تنفذ من خلالها الجهات الطالبة للقرض الربوي إلى الرخصة بذات الحجة وذات الشرط الذي أقرته الفتوى.. 3/ أن يكون محل التمويل مشروعات تنمية تلبي حاجات أساسية للدولة مثل تمويل مشروعات البنى التحتية الضرورية والخدمات الأساسية وكذا تمويل المهمات الدفاعية.. وبهذا تكون الفتوى قد فتحت الباب على مصراعيه للدولة لتقترض بالربا في كل مشروعاتها لأن كل مشروعات الدولة مشروعات تنمية وتلبي حاجات أساسية مثل البنى التحتية والخدمات كلها أساسية حتى استيراد عربات النفايات من الخارج بقروض ربوية سيجد من موظفي الدولة من يدافع عنه ويقسم الإيمان المغلظة أنه من أكبر الضروريات الصحية!! ما هو معيار الضروري وغير الضروري في سياق الفتوى؟ وهل يختلف من مجال إلى مجال أم يظل كما هو وخاضعًا لتقديرات الموظف الوزير أو الوالي أو المعتمد؟ إن الذي قد فات على الإخوة العلماء أن الزمن سوف يُنسي الناس تفصيلات الفتوى وسيذكرون فقط أنها أباحت الربا للدولة وكفى.. وسيقولون إن الدولة لن تستفيد من الربا فهي كائن اعتباري وليس حقيقياً فهي مبرأة من القرض.. وهي حجة أو هى من خيط العنكبوت.. يقول الشرط الرابع: 4/ أن يترتب على عدم التمويل الإضرار بالدولة أو الشعب إضراراً حقيقياً وليس متوهَّماً.. وأنا أظن أن هناك إشكالية في فهم هذا الشرط.. وفي التفريق بين الحقيقي والمتوهَّم بالنسبة للدولة وهناك فرق كبير بين الضرر الحقيقي والمتوهَّم للفرد والآخر للدولة.. إن الضرر الحقيقي للفرد مثلاً أن يجوع فعلاً.. وأن يتوه في الصحراء.. ويبعد عن الأماكن المأهولة.. وأن يغلب الظن أنه سيموت إن لم يأكل الميتة.. أما المتوهم فأن يجوع وهو على سبيل وطريق يمر به الناس ولديه دراهم يشتري بها منهم أو يقترض بدون ربا.. أما الحقيقي بالنسبة للدولة فأن تحدث نذر ضائقة أو مجاعة فهذا ضرر حقيقي بالنسبة للدولة ولكنه لا يبيح لها الربا لأن الموت لم يقع به بعد وفي إمكان الدولة اتخاذ تدابير أخرى غير الاقتراض بالربا.. مثل تحريك الطاقات وإعمال البدائل والاستنغاء عن بعض الأموال أو الإمكانات أو إيقاف بعض المشروعات واستبدالها بمشروعات إسعافية.. إن الاقتراض بالربا للدولة لا يجوز إلا إذا وقع طاعون يقتل الناس بالآلاف وإلا إذا وقعت مجاعة تقتل الناس بالمئآت هنالك فقط يجوز للدولة أن تقترض بالربا!! فهل يسمح المجتمع الدولي الذي نعيشه اليوم بأمر كهذا؟ هل سينتظر المجتمع الدولي حتى يموت الناس بالمئآت والآلاف والملايين ليأتي ويقرضنا أمواله بالربا؟! إن دائرة الجواز للاقتراض بالربا تضيق.. وتضيق حتى تأتي إلى نقطة تستحيل معها الفتوى.. يقول الشرط الخامس 5/ ألا يترتب على هذه القروض ضرر مساو للضرر الأصلي أو أكبر منه.. إن أهل هذه الفتوى يعلمون علماً يقينياً أن هذا محال إلا إذا كان القرض قرضاً حسناً وإلا فإنه ربا نسيئة مرتبط بالمدة.. وأكبر مشكلات العالم النامي اليوم هي مشكلة سيداو، القروض الربوية التي وقعت فيها الدول الصغيرة وأصبحت من بعد عقدة في مسيرتها إلى الأمام.. إن قضايا التنمية لا يمكن أن تحل بالربا لأن الربا هو في حد ذاته أكبر خصم للتنمية وأكبر عقبة في مسيرة الأفراد وقل أن ينجح مشروع استثماري أسس على أموال الربا بل من المحال أن ينجح.. لأن الله سبحانه وتعالى يمحقه..