مرَّت الأغنية السودانية بأطوار كثيرة مزدهرة أحياناً ومتدهورةً أحياناً أخرى حسب الحالة الاجتماعية والأمنية للبلاد. ويبدو أنني قد غطيت لكم ما كان من امرها في العهدين السناري والتركي. وفي فترة المهدية منعت السلطات الغناء تماماً، اذ اعتبرته نوعاً من المجون الذي يتعارض مع النهج الإسلامي المطروح من جانب الحكومة، «لكن تحت تحت الناس كان بقيموا حفلاتهم بطريقة تلوي القانون ولا تكسره». وبعد سجال طويل سمح المهدي لرجل اسمه «ود التويم» بأن يمدح الثورة المهدية، وكان ينظم تلك الاشعار رجل اسمه «ود سعد». ويتميز ود التويم بصوت رخيم ذي طبقات متدرجة واداء مهني طروب «تقول سمعته». وكان يؤدي مديحه بمساندة بعض «الشيالين» الذين لا تتعدى مهمتهم ترديد الشطر الأخير من كل بيت، مع نقرات خفيفة على العصا. وبعد دخول الانجليز السودان اطلقوا الحريات العامة مثلما تفعل كل الحكومات في ايامها الأولى ثم تنقلب عليك «قلبة عدوك».. وفي بدايات القرن العشرين كان الغناء السائد هو الدوبيت وأغاني البنات، ثم ظهر مطربون يعاونهم شيالون خلفهم بكرير الحنجرة والضرب على الصدر باعتباره نوعاً من الإيقاع مثلما يفعل عرب الهواوير اليوم. وسار الأمر على هذا النهج حتى حدث انقلاب مفاجئ غيَّر من خط الأغنية، وذلك في عام 1920م في زواج أشهر تجار أم درمان وقتئذٍ واسمه بشير الشيخ. ودعا التاجر المغني سرور والأمين برهان لإحياء الحفل، وعندما وقف سرور للغناء غادرت فرقته التي كانت تقف خلفه وسط دهشة الحضور واستنكار الجميع، وتركوه في وضع أكثر من حرج. ومرت لحظات صمت عصيبة قطعها إبراهيم العبادي بارتجال أبيات من الدوبيت شكر فيها أسرة العريس وأكد قيام الحفل. وطلب سرور من الأمين برهان أن يقف إلى جواره ويردد آخر كل مقطع، وانطلق صوت سرور مغرّداً ينقر على عصاته، وحالما ولجت الدارة فتاة طويلة جيدة التقاسيم وبدأت في الرقص على هذا الايقاع الحديث يقول بعض الرواة أنها كانت متفقة مع سرور على الرقص، وها هو قد أوفى بوعده وفعلت هي كذلك. أما أسباب إضراب الشيالين فهي كثيرة ويمكن حصرها في الآتي: 1/ ضاق الشيالون ذرعاً بقوة وجمال صوت سرور الذي طغى وأهدر جهدهم في أيام سلفت. 2/ قيل إن سرور وقبل الحفل بلحظات زجر أحدهم زجراً عنيفاً. 3/ كوّن ديمتري البازار لجنة سماها «اللجنة الفنية للشعراء والمطربين» برئاسة الشاعر شريف أحمد عمر، وفي أحد الاجتماعات اقترح سرور فكرة إلغاء الشيالين وكرير الحنجرة واستبدالهم بالصفقة والنقرشة على الكبريتة، وعندما علم الطنابرة بذلك قرروا إحراج ومقاطعة سرور. 4/ تلك البنت التي رقصت كانت ذات علاقة سابقة برئيس الطنبارة، ولما سألها «قبل الحفل» عن أسباب حضورها قالت إنها جاءت من أجل سرور، فهاجت الغيرة فيه وأضمر الشر الذي عاونه عليه زملاؤه. وكان التقليد المتبع أن تدوم أفراح الزواج أربعين ليلة، وقد حافظ سرور على النهج الجديد طيلة هذه المدة حتى اعتاد الناس عليه وصاروا يعشقونه، لذا اعتبر مؤرخو التراث أن أول ليلة في زواج بشير الشيخ يوم مشهود في تغيير خط الأغنية السودانية. وأحسن مرجع لما ذكرت هو كتاب تاريخ الغناء والموسيقى في السودان للأستاذ معاوية يس، وملامح من المجتمع السوداني لحسن نجيلة، وبعض وثائق الفترة المهدية بدار الوثائق. وفي إحدى الوثائق الخاصة بمكتبة البازار هنالك وثيقة جاء فيها «بعث السيد سر الختم القدال مراقب نهر عطبرة من محطة خشم القربة خطاباً في أول أبريل1940م طالبا تزويده بأسطوانة دوبيت للمطرب زنقار «الثمن 40 قرشاً» وأسطوانة «يا ليل أنا سهران» للمطرب عوض شمبات «الثمن 35 قرشاً»، وأرفق مع الخطاب كمبيالة ب 90 قرشاً».