إذا كانت واشنطن قد أصدرت من خلال وزارة خارجيتها أخيراً تقريراً حول تجاوزات حكومة جنوب السودان المتمثلة في ارتكاب جرائم اغتصاب وتعذيب وقتل وسحل، فإن هذا إذن يلزم المحكمة الجنائية الدولية أن تحرك مدَّعيها العام أوكامبو ليقوم بإجراء اللازم من باب «الخداع الدولي»، حتى لا تواجه هذه المحكمة مزيداً من الاستنكار والاستهجان فتصبح سمعتها سيئة إلى أسوأ.. لكن بما أن دولة جنوب السودان تبقى صديقة عزيزة لإسرائيل التي هي بوصلة السياسة الخارجية الأمريكية فإن صدور مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية بحق رئيس الدولة سلفا كير ونائبه مشار وأمين عام الحركة الشعبية الحاكمة في جوبا باقان أموم وغيرهم من قادتها يبقى مثل المذكرة التي كانت قد صدرت عن نفس المحكمة لتوقيف بحر أبو قردة الذي استجاب لطلب المدعي العام ومن ثم برّأ ساحته من أي ضلوع في أية جريمة حرب وقعت أثناء الحرب في دارفور.. الآن سلفا كير ومن معه يحكمون بالعافية و«المافيا» دولة هي «موظفة» لمشروعات تآمرية تقوم في إفريقيا على حساب أمن واستقرار واقتصاد شعوبها لصالح شعوب الغرب وشعب الكيان اليهودي في فلسطينالمحتلة، وبهذه المشروعات التآمرية يكون جزء عظيم من إفريقيا محتلاً أيضاً، وإذا كان شكلا هذا الاحتلال وذاك يختلفان من حيث الشكل فهما واحد من حيث النتيجة على صعيد السيادة على الأرض والأمن والاستقرار والاقتصاد.. ثمار مرة واحدة يجنيها شعب فلسطين وشعوب إفريقيا السوداء من الاحتلال المباشر كما في الأولى والاحتلال غير المباشر كما في الثانية.. وهكذا تبقى إسرائيل عدواً مشتركاً لشعب فلسطين ولشعوب الدول الإفريقية المعنية، لكن اليهود وهم أهم من يخدم قضية باطلة يصورون العرب عدواً للأفارقة غير المسلمين، ومن بصمات هذا التصوير مشهد رفع العلم الإسرائيلي في جوبا أثناء الاحتفالات هناك بإعلان انفصال جنوب السودان، ومن كان يرفع العلم الإسرائيلي عالياً خفاقاً من مواطني جنوب السودان لا فرق بينه وبين المواطن الفلسطيني كضحية للتآمر اليهودي، لكن اليهود الأذكياء هم أمهر من يخدم قضية باطلة، وقد أخطأ الشاعر حينما قال: إفريقيا طوت الظلام وودعت حقباً عجافاً لا تعي لا تنطق فهل نعتبر المشروعات التآمرية اليهودية والغربية في «إفريقيا السوداء» طيّاً للظلام ووداعاً لحقب عجاف لا تعي لا تنطق؟! طبعاً لا.. وإذا كانت إسرائيل معفية عن مذكرات أوكامبو، فإن هذه المذكرات إذا صدرت بحق مسؤولي دولة جنوب السودان بعد تقرير الخارجية الأمريكية ستكون من باب «العدالة الزائفة» و«المساواة الوهمية»؛ لأن السؤال هو: هل تستوي حكومة الخرطوم وحكومة جوبا في نظر إسرائيل وواشنطن؟! إنهما لا يستويان مثلاً.. لذلك حتى لو تشابه ورق شجر الموز الحقيقي وورق شجر الموز الكاذب، فهذا حقيقي وهذا كاذب.. وعلى هذا قس مذكرات التوقيف التي يطلقها أوكامبو من محكمة اسمها «المحكمة الجنائية الدولية»، وهي ليست إلا محكمة تجني وتجريم إذن هي (محكمة التجني والتجريم وخداع الشعوب) إنها الشعوب التي لم تطوِ الظلام ولم تودع الحقب العجاف، فما زال الظلام مستمراً وكل حقبة هي عجفاء حتى الآن.. انظر إلى الإهانة التي يتعرض إليها الأفارقة ومنهم أبناء جنوب السودان وأبناء دارفور في إسرائيل.. وانظر في ذات الوقت كيف يتهافت أبناء جنوب السودان للثعلب اليهودي الذي خرج عليهم بثياب الواعظين. تقرير الخارجية الأمريكية رغم إشاراته إلى حوادث مهمة وحقيقية إلا أنه جاء مبتسراً وكأنه يريد تقليص حجم الجرائم التي ارتكبتها الحركة الشعبية في الإعلام الداخلي الأمريكي لاعتبارات انتخابية مستقبلاً، وكأنما المقصود ألا تكون صور الجرائم في الإعلام بشكل أفظع من تجاوزات حكومات بعض الدول؛ لأن هذا فيه إحراج وخسران سياسي ودبلوماسي لإسرائيل وواشنطن معاً.