كلما أشرقت الشمس يحمل سعيد «الخيشة» إلى السوق ليحصل على قوت عياله بناءً على ميزانية محدودة ولكنه يفاجأ بأن الأسعار قد زادت مقارنة بسعر الأمس. فيجلس مع جاره صالح ليجأر بمر الشكوى من غلاء المعيشة ويتحدثا عن أيام زمان عندما كان اللحم «بالوقة» والسكر «بالرأس» وكل شيء شبه مجاني؛ الزيت و الذرة والدخن مما نزرع أو من «المطمورة»؛ والسمن من البقر والماعز! و«الويكة» من «الجبراكة». كان الخير وفيراً والسماء تجود بالمطر كل عام فينبت الزرع ويمتلئ الضرع وإذا حدث أي نقص تسارع الحكومة لسده بأسرع وقت. حتى العلاج وصحة البيئة كلها كانت تقدم مجاناً وتصل إلى المواطن في مقره في الحضر أو الريف في الموعد المحدد. كان المواطن يشعر بأن هنالك جهات مسؤولة عن معيشته وصحته وتعليمه؛ أو كما قال سعيد «العيشة كانت فيها بركة يا حاج صالح»؛ فكأنّ البركة قد نزعت من كل شيء بما كسبت أيدي الناس. والآن دونكم هذه القائمة التي وردتني من إحدى محليات شمال كردفان: اللحم الكيلو 35 ج الدخن 12ج الفيتريتة 8 ج السكر رطل 2.5 ج الزيت 7 ج الجازولين جالون 11ج بالطبع هذه الأصناف ليست كل ما يحتاج إليه الإنسان ولكنها تمثل غالب قوت أهل المنطقة وإذا تعذّر الحصول عليها فإنّ ذلك يمثل ضائقة معيشية فعلية؛ وصدق من قال «يشهد السوق غلاءً جعل الشعب متفرجاً على كثير من السلع، ولسان حال الكثيرين يقول: نأكلها في الجنة» و لعل الكاتب يتحدث عن أشياء مثل التفاح والعنب والدواجن التي لا يحلم بها صغارنا ناهيك عن الكبار.. هذه الأسعار تعني بحساب بسيط أن متوسط صرف الأسرة المتوسطة في الشهر يبلغ حوالى 1,700 جنيه وذلك مع الصبر على الجوع والحرمان وشد الأحزمة. مع العلم بأن متوسط دخل الفرد لا يتجاوز 700 جنيه في الشهر؛ هذا إذا استثنينا رواتب الدستوريين التي لا تحسب بالمعدلات المتبعة في الخدمة المدنية! ظلت حكومة الولاية تعول على عائدات التعدين الأهلي الذي صار هو الداء والدواء في وقت واحد. فحسب إفادات العاملين في هذا النشاط غير المضمون فإن نسبة لا تتعدى 5% هي التي تجد ما يعرف عندهم «بالمفاجأة» وتحدث كل هذا الوهم والضجة التي دفعت كثيرًا من الشباب والمنتجين إلى ترك العمل في الزراعة والرعي ونتيجة لذلك تدهور الإنتاج بل كاد ينعدم تماماً؛ مما أدى إلى ندرة في بعض السلع كاللحوم والخضر وبالتالي ارتفعت الأسعار مع غياب الرقابة على الأسواق التي أصبحت لا يأتيها المسؤولون إلا لتحصيل العوائد والضرائب التي يتحمل عبئها فقراء المواطنين.. كما أن معدل الوفيات من التعدين التقليدي بشكل مباشر أو غير مباشر مرتفع جداً، فقد بلغت الوفيات في منطقة شمال بارا لوحدها ما يزيد على خمسة عشر شخصاً خلال شهر واحد. وفي منطقة راهب هنالك تهديد أمني على العاملين في التعدين التقليدي من قبل الجماعات المتمردة في شرق شمال دارفور بدليل حادثتين معروفتين في الآونة الأخيرة. وكل هذه عوامل تجعل من غير المقبول أن تصم حكومة الولاية آذانها عن معالجة غلاء المعيشة بحجة أن المعدن الأصفر قد كفاها مشقة التفكير في مخرج من هذه الضائقة المعيشية الطاحنة التي تجتاح الولاية الآن. والمعلوم أن عائدات التعدين لا تُستغل في زيادة الإنتاج الزراعي ولا الحيواني؛ كما لا ننسى أننا الآن في أشهر الصيف ولذلك فإن هذه الحال قد تستمر حتى شهر أكتوبر المقبل على أقل تقدير، إذا نجح الموسم الزراعي القادم! إذاً ما هي المعالجات؟ تتحدث الجهات المسؤولة عن توفير كميات من الذرة عبر إدارة المخزون الإستراتيجي وحسبما أفاد به بعض المواطنين فإنّ الكمية محدودة جداً والنوعية سيئة أو قديمة؛ والأدهى من ذلك كله أن هذه الذرة ينطبق عليها المثل «كسيرة وملاحها في الريف» لأن المتعهد عليه تسديد القيمة التي حددتها وزارة المالية في الأبيض بحوالى «140» جنيهًا للجوال الواحد والاستلام من ربك! و لا نعلم عن أي إجراء آخر أو آلية اتخذتها حكومة الولاية للتعامل مع هذه المشكلة. إنّ تقرير أداء الولاية الذي أجازه مجلس الوزراء قد ورد فيه «كما أبدى المجلس رضاه عن تطور اقتصاد الولاية وزيادة الإنتاج بوجه عام فيها ودعا المجلس الى التركيز على مجال الإنتاج في المرحلة القادمة من خلال الاستفادة من المخزون المائي المتاح، لزيادة عائد الثروة الحيوانية والحبوب الزيتية موجهاً في ذات الوقت بزيادة الاهتمام بالتصنيع الذي يضمن تحقيق قيمة مضافة للإنتاج»! هل هنالك أية إشارة إلى الوضع المعيشي الراهن؟ وعن أي تطور وتصنيع وزيادة في الإنتاج نتحدث وإنسان الولاية يعاني من الجوع والعطش حتى في حاضرة الولاية الأبيض؛ و80% من المزارع «السواقي» لم تزرع هذا الموسم؟ و هل انعكست زيادة الانتاج المزعومة على معيشة المواطن؟ وكيف تزيد الثروة الحيوانية والناس الآن يبيعون قطعانهم خوفاً عليها من الهلاك؟ نحن نريد معالجات لهذا الوضع المتردي وحلولاً تتناسب مع مصادر الولاية الطبيعية خاصة وأن التقرير يتحدث عن «الاستفادة من المخزون المائي المتاح». هذه الولاية لا مخرج لها إلا بالزراعة والثروة الحيوانية وذلك لن يتحقق إلا بدعم حقيقي لا يؤدي بالمزارعين والرعاة إلى غياهب السجون؛ ونعلم أن وزارة الزراعة قد بذلت بعض الجهد ولكن ذلك لا يكفي إذ المطلوب هو برنامج متكامل تتبناه حكومة الولاية مع الجهات الفنية ومحافِظ التمويل القومية، مع تشجيع الاستثمار عبر حزمة من التشريعات والضمانات والحوافز من أجل زيادة الإنتاج؛ وكنا قد اقترحنا على السيد الوالي زيارة السعودية والخليج لاستقطاب المستثمرين، مثلما فعل غيره من الولاة فأفادوا منطاقهم وعمروها، مع استعدادنا لترتيب كل ما يلزم ولكنه أعرض عن اقتراحنا. عموماً، نرجو تدخل الجهات الرسمية لتنظّم نشاط التنقيب التقليدي حتى يكون في أوقات محددة تفادياً لتعطيل الإنتاج الزراعي والحيواني والفاقد التربوي. يا حكومة الولاية كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته!