من معطيات الحياة اليومية تتكشف للإنسان حالات ومشكلات جديرة بالتوقف عندها والنظر فيها لجهة إدراك معنى البقاء في الحياة، من تلك المواقف والحالات (العصاميون) الذين لديهم مقدرة عالية على الإبداع وتطويع وتشكيل المتاح لأجل البلوغ إلى تطلعات وآماني وأحلام ربما يتقاصر الكسول والعاجز عن أن يطولها.. استوقفتني «طفلة» لم يتجاوز عمرها السنة الثانية عشرة ببراءة كاملة تعمل على بيع «النبق والفول السوداني والفشار والتسالي» إلى رواد حدائق «6» أبريل أمام فندق كورال «هيلتون سابقًا».. طفلة عصامية تمتلك قدرة مدهشة على صنع الذات واستثمار طاقاتها ومواهبها في جذب رضا الزبائن، تأتيك وتعرض عليك بضاعتها بإبداع وحينما لا تستجيب لها تقول لك وببراءة «جاملوني» وهي العبارة التي حفظها معظم رواد المكان وأصبحوا يسمونها بها وينادونها بها كذلك، العبقرية ليست في الحالة وإنما في السلوك المتفائل بالحياة ولا يعرف القنوط رغم البؤس البائن على الحال، لكنه لم يوهن عزيمة هذه الطفلة ولم يصرفها عن النظر للمستقبل بتفاؤل، لم نلحظ فيها استغلال الغرض والاستفادة من حالة التعاطف لتتحول إلى طفل متسوِّل رغم ضيق ذات اليد!! أكيد للضرورة أحكام، وهناك ظروف أسرية قاهرة جعلت من هذه الطفلة وفي هذا العمر المبكر بائعة في وقت يعيش فيه آخرون من أمثالها في حضن وأحلام مختلفة، وهي تصاريف الحياة التي تفرض على الإنسان واقعًا مرّاً لا يختاره بنفسه لكن العبرة وجمال ومتعة الحياة تكتمل عندما تشعر بأنك قد بدأت حياتك الذاتية من الصفر ثم بلغت القمة بعد توفيق الله وسنده.. ذات الطفلة صاحبة ال «12» خريفاً يعمل إلى جوارها شاب آخر يسمى «فريد» يغسل «السيارات» يمثل نموذجًا آخر في العصامية والقدرة على تجاوز الصعِّاب مهما تعاظمت، هذا الشاب عرفته منذ مدة ليست بالقصيرة تجاوزت العامين وإنني أحياناً أتعمد ترك مبالغ مالية أو غيرها من مغريات الدنيا لكنه لم يمد يده إلى شيء، أذهب ثم آتي وأجدها كما هي لا يحركها من مكانها بل أحياناً تكون لدي مفقودات مجهولة يجدها تحت الكراسي ويعطيني إياها، «فريد» هذا امتحن شهادة مرحلة الأساس العام المنصرم ولم يُشعرني أو أيًا من زبائنه بأنه محتاج!! حقيقة «الأصل» ما ببقى «صورة»، هؤلاء وغيرهم أصول إنسانية لبلد في أمس الحاجة إلى جهود أبنائه المخلصين، «فريد» لم يمد يده على مال خاص في متناول يده، لكن نموذج آخر بدون ضمير يمد يده على المال العام وآخر يتربص بجيوب المارّة في الأسواق.. أمثال هؤلاء رغم صغر سنهم وأعمالهم الهامشية لكنهم يعيشون المجد ويأتيهم المجد مشياً ليأخذ من مجدهم، وصدقوني هؤلاء الصغار أصحاب المهن الهامشية يلتقون الوزراء ورجال الأعمال لأن المكان جامع، غير أنهم لا يسألونهم والتاريخ يحدِّث بأن أغلب العصاميين لا يرثون المال ولا يصلون إلى السلطان وسلطته ولكن السلطة هي التي تأتي إليهم تجرجر ذيولها طوعاً!! أخي العزيز اللواء عمر نمر معتمد الخرطوم نحن ندرك أنك رجل إنسان وعصامي وتحمل من التواضع قدراً وفيراً ومن خلال مسيرتك التي عرفناها لا تجد بأساً في أن تقف على أي حال وأن تساعد كل طالب حاجة، فهذان نموذجان لطفلين مجتهدين وإنني متأكد أنهما يكتسبان المال لسد حاجة أسر تقف على باب الحاجة والفاقة، ومن حسن الظن أن هذين «الطفلة» و«الشاب» وبالصفات التي عرفناها بهما لا يمكن أن يكونا قد خرجا من منبت سوء فرجاءً أخي «نمر» أن تبحث وعبر آلياتك ومعاونيك عن («الطفلة جاملوني» والشاب «فريد») لتصل عبرهما إلى أسرهما كي تتعرف على الكثير وربما المثير حول الحال والحاجة، هذان نموذجان يستحقان الاعتناء من الدولة رغم أن الحالات مثلها كثيرة في كل حيِّ وزقاق.. كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلس للناس عقب كل صلاة لا باب ولا حجاب ولا حرس فيكلمه الناس في شؤونهم وحاجاتهم فيجيبهم ويتفاعل معهم، كان يرفض أن يكال له المديح فقد ناداه أحدهم بقوله: يا خير الناس!! فقال له: أدنُ إلىَّ أتدري من هو خير الناس، رجل من البادية له صرمة من الإبل والغنم باعها ثم أنفقها في سبيل الله فذلك هو خير الناس!! الحاكم عليه أن يتواضع ولا يعجب برأيه ونفسه، هذه مجرد نصائح ووصايا أخي «عمر نمر» وإن صدقت الرواية أنك يوماً ما عمدت أن تستقل المواصلات إلى مكتبك لأجل أن تسمع رأي الناس في بصات الوالي وفي الحكومة وتدابيرها في الحكم وإدارة شأن البلاد هذا هو المنهج في الحكم وإدارة شأن الناس.. وأختم بأعنف نصيحة قدمها «الأحنف» لسيدنا عمر بن الخطاب قال له: «يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله ثم حملك على رقاب المسلمين، جاءك رجل يستهديك فضربته، ماذا تقول لربك غداً إذا لقيته؟!