كانت السماء والأفق الغربي مضرجاً بالغروب، وتبدو الشمس وهي تشهق لتغيب... كأنها تفلت من بين ذؤابات شفقها الأحمر وتتوارى كما الندى الشاحب في وجه زهرة ذابلة... والسيارة تصعد بنا في إجهاد وعنت على الطريق الجبلي المتلوي، كحيّة رقطاء لسعتها ألسنة اللهب، يتثنى الدرب متصاعداً إلى القمة في بطء كراقص إفريقي حاذق يشبه «أوكونكوو» بطل رواية «أشياء تتداعى للروائي النيجيري «تشينوا أتشيبي» الذي شبهه بأنه زلقٌ كسمكةٍ في الماء». وأنين السيارة وهديرها يتقارب من ذوبان الشمس في فنجان قهوة الليل الذي بدأ يرخي سدوله وينشر أستاره، وهواء بارد يلفح وجوهنا في مقدمة أيام الربيع من شهر مارس 1994م، تركنا خلفنا مدينة سنكات، ونحن في الطريق نحو أركويت في المصيف الشهير في قمة جبال المنطقة التي غطاها الظلام بعد حلول المغيب ونشر المساء بردته السميكة.. وتراقصت في صفحة السماء أنجم لامعة متفرِّقة هنا وهناك، حين تذكرت كلمات منسية للشاعر العماني سيف الرحبي: « قافلة تسير في ليل دامس من غير حداء.. ولا دليل ولا كلاب تنبح.. جنازة الليل الكبرى تمخر عباب الزمن..» ثمة أشجار تبدو كأشباح عند مدخل أركويت، شجر بلا أوراق على جنبات الطريق الترابي، شاخصة نحو السماء هذه الأشجار كأنها ترضع لبن الليل الأسود من أثداء الفضاء العريض المرصع بنجومه الزواهر. «ب» وجدنا المنطقة خالية كأننا في فلم من أفلام ملك الرعب «الفرد هيتشكوك» المخيفة المرعبة، المباني والاستراحات مقفرة ومظلمة لا حياة فيها، لا أحد هناك ولن يجيء أحد في مثل هذا الوقت من السنة، الارتفاع الشاهق عن سطح البحر والشتاء الذي يلملم أثوابه البيض الباردة، كلها مثبِّطات المجيء، فالمنطقة للاصطياف وليس لقضاء ليلة شتاء دافئة. أنزلنا نحن الستة أمتعتنا، ثلاثة أزواج وزوجاتهم، عادت السيارة التي أتت بنا أدراجها، بقينا نبحث عن «خفير» عجوز، حدثونا عنه وقيل لنا إنه سيستقبلنا ويعد لنا مكان الإقامة، هناك ضريح شامخ يبدو على تلة في قلب الهضبة الفسيحة التي بها المصيف، وجدنا الرجل العجوز هناك وأفادنا أنه ضريح عثمان دقنة بطل الشرق الأسطوري، كانت هناك مبان قديمة مشيدة على الطراز الفيكتوري العتيق، تبدو في الظلام كقلاع غامضة تتعصف فيها الريح وتصرصر أبوابها وخشب نوافذها، تشيع جواً من الرهبة والفزع كأصوات جن محبوس من زمن سليمان. «ت» الرجل المسن الذي يعمل خفيراً كان ملفعاً بشال من الصوف، طوق به رقبته ولفّ جزءاً منه على دائرة وجهه، نحيلاً كعود خيزران، وكقصبة يهزها الريح، أو خيال مآتة نفخت فيه الروح فمشى وجلس وسار. عيناه على ضوء نار الحطب التي أشعلها قرب مجلسه غائرتان في حجريهما تومضان ببريق غريب وسريره القابع في ممر طويل أمام إحدى الاستراحات، ، أضاف المشهد وجهاً أساطيرياً للمكان والليل ونجومه البعيدة التي ترقب عن كثب. رجلاه رقيقتان دقيقتان كساق نعامة، مثل أم الشاعر الفارس عنترة بن شداد وهو يفتخر بأمه السوداء: الساق منها مثل ساق نعامة * والشعر منها مثل حب الفلفل له لحية مدببة وجبهة عريضة بارزة ويدان معروقتان يابستان كالحطب الذي يرميه على النار، بجانب منضدة قديمة متهالكة فيها بعض أغراضه، وتحت السرير على مقربة من إحدى أرجل السرير أواني صناعة القهوة وعلب من الصفيح فيها السكر والبن والزنجبيل وأعشاب أخرى نثرها أمامه حين بدأ في حركة خفيفة واتقان غريب يعد لنا القهوة وهو يرحب بنا في حذر ودهشة. سألنا عن مقدمنا وعرف أننا عرسان جدد، اخترنا أركويت في جولاتنا الداخلية والخارجية لشهر العسل الذي توافقنا فيه ثلاثة أصدقاء أن نسافر فيه معاً في مناسبات زواج متزامنة. حدثنا الرجل وقال إن عمره تجاوز الخامسة والثمانين، وإنه يعمل خفيراً هنا لأكثر من خمسة وستين عاماً، شهد الإنجليز وكبار المفتشين والمسؤولين أيام الاستعمار وحكى قصصاً من حكايات أركويت وكيف اُختيرت منتجعاً للمصيف، وعرّج على ذكريات الفريق إبراهيم عبود وقصره الرئاسي في تل قريب من مكان مبيتنا، وزيارة الرئيس السوفيتي برجنيف، وزيارة الرئيس الروماني نيكولاي شاوسيسكو وعدد من القادة والزعماء على مدى ستين عاماً كان يراهم يروحون ويجيئون وهو قابع في مكانه مثل الجبال التي تحيط بالمنطقة لا يرحل ولا يغيب ولا يهرم. «ث» حكى لنا بطريقة أثيرة ويشير في الظلام... فأعينه ليست كعيوننا، اعتاد أن يرى جيداً في الظلام، تكيفت عيناه مع الليل، كان يرى بوضوح كامل المكان أمامه يشير بأصبعه المنثني كسنارة صيد، إلى المباني المتناثرة في الهضبة الفسيحة، يحكي عنها أقاصيص ممتعة، ونحن نرشف القهوة ونأكل من معجنات وكيك أحضرناه معنا...رفض أن يأكله فهو يعيش على اللبن والتمر ودقيق ذرة الدخن والخضروات والعسل. تسامرنا طويلاً، ثم ذهبنا لننام في غرف موزعة في مبنى قديم عتيق هو استراحة الحاكم العام الإنجليزي، وصفير الريح يتعالى كلما أوغل الليل في هدوئه العجيب.. وربما هناك غربان تنوح كالثكالى لكنه بلا شك أصوات لغربان، وفي الخارج في الفضاء العريض تحفر أضواء النجوم البعيدة أخاديدَ في كتلة الليل البهيم. هدأ كل شيء وانتصف الليل وزاد والخلائق كلها نامت، حتى النجوم تثاءبت وهدأ عويل الريح التي ربما تعبت من اللا شيء هناك بين فجاج الجبال، ويمضي الوقت بطيئاً جداً.. لا شيء هناك في لجة السكون والصمت الرهيب.. تستطيع أن تسمع حفيف أجنحة الذباب، وهمس الزهر في أكمامه.. ثم جاء صوت خفيض غريب قريب.!! «ج» فتحتُ باب الغرفة وخطوت في الممر الطويل، وجدت الباب المطلَّ للخارج مفتوحاً، وفي وسط الفناء الرجل العجوز جلس على مصلاته المصنوعة من السعف، رافعاً يديه للسماء في ضراعةٍ ودعاء ووجهه في ظلام الليل ووميض النجوم.. مشرئب إلى أعلى كمن يحدث من هو قريب منه، كان صوت الدعاء المتحشرج واضحاً، وأحياناً ينطق بكلمات برطانته البجاوية، وربما سالت على وجهه دمعات لا تُرى لكنها في لمع النجوم تسيل كحباب لؤلؤ أبيض براق. كان مشهداً عرفانياً مذهلاً.. إخبات وتبتُّل لرجل يناجي ربه كأنه يملك الدنيا وما فيها، كانت كلمات دعائه الواضحة.. صادقة فيها من الخوف وحب الله، ليس فيها رغبة في دنيا ولا رجاءً لفك كربة ولا دعاءً وصلاة حاجة، تعظيم للخالق وطلب القربى منه والملتجأ الذي عنده.... قفلت راجعاً... تملكني المشهد ولم أنم... وجدت نفسي صغيراً جداً أمام هذا العابد الذي لاذ بخالقه والدنيا البعيدة عنه لاهية وغافلة، أنيسه في وحشة الليل دعاؤه والقرآن الكريم الذي في قلبه. في البداية ظننت أنه لكبر سنه وربما يكون مريضاً وصابراً مبتلى بسقم عضال يدعو ربه مثل الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في مرضه الصدري عندما كتب قصيدة سفر أيوب في لندن عام 1962 ويقول فيه : لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبدّ الألم، لك الحمد، إن الرزايا عطاء وأن المصيبات بعض الكرم. ألم تُعطني أنت هذا الظلام وأعطيتني أنت هذا السّحر؟ فهل تشكر الأرض قطر المطر وتغضب إن لم يجدها الغمام؟ شهور طوال وهذي الجراح تمزّق جنبي مثل المدى ولا يهدأ الداء عند الصباح ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى. ولكنّ أيّوب إن صاح صاح: «لك الحمد، إن الرزايا ندى، وإنّ الجراح هدايا الحبيب أضمّ إلى الصّدر باقاتها هداياك في خافقي لا تغيب، هداياك مقبولة. هاتها!» أشد جراحي وأهتف بالعائدين: «ألا فانظروا واحسدوني، فهذي هدايا حبيبي وإن مسّت النار حرّ الجبين توهّمتُها قُبلة منك مجبولة من لهيب. جميل هو السّهدُ أرعى سماك بعينيّ حتى تغيب النجوم ويلمس شبّاك داري سناك. جميل هو الليل: أصداء بوم وأبواق سيارة من بعيد وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد أساطير آبائها للوليد. وغابات ليل السُّهاد، الغيوم تحجّبُ وجه السماء وتجلوه تحت القمر. وإن صاح أيوب كان النداء: «لك الحمد يا رامياً بالقدر ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاء!» * «ح» عندما أشرقت الشمس صباحاً، وجدناه قد أعد القهوة والشاي بالحليب، يبدو عليه نشاطاً وحيوية لا تصدق، بعدها أخذنا في جولة في منتجع أركويت يصف لنا الأمكنة ويحكي لنا التواريخ التي لم تروَ بعد خاصة عن عثمان دقنة وجهاد أهل الشرق وهو جهاد متصل حتى اليوم لم ينقطع ولا تراجع. ونحن نطلُّ من«جبل الست - أعلى قمة في أركويت»، على مدينة سواكن والبحر الأحمر في الأفق البعيد.. اقتربت منه، وسألته عن حياته...أجابني في ثقة، أنه يعيش هنا وهو مطمئن لا يؤذي مخلوقاً ولا يؤذيه أحد. ثم سألته عن مناجاته الليلية.. نظر إليَّ بعمق وهو يضرب بعصاه حجارة صغيرة، متكئاً على صخرة ملساء وقال وهو يرنو للأفق الشرقي الصافي ... « يا ابني، عندما تكون هنا في قمة الجبال هذه، تشعر أنك وحدك قريب جداً من السماء... وقريب جداً من الله.. فلماذا لا تكلمه وهو قريب منك» ...!!! ثم سار أمامنا ونحن نتبعه.... لم يتكلم.!!