أصبحت الإجراءات المالية والاقتصادية أمراً واقعاً لا مفر منه، وقررت الحكومة المضي في تنفيذها مع حزمة من التدابير الأخرى المتعلقة بهيكلة الدولة وتقليص الجهاز التنفيذي وتخفيض عدد الدستوريين في الحكومة الاتحادية والولايات. وتتبع سياسة التقشف كما هو معروف عقب إعلانها معالجات لازمة وضرورية تعمل على ضبط الإنفاق ووقف الإسراف الحكومي وزيادة الإيرادات وتقليل الصرف على الخدمات ورفع الدعم عن السلع وتهيئة المناخ لإصلاحات اقتصادية فورية تزيد من معدلات الإنتاج وتسد الفجوة ما بين المنصرفات والإيرادات، وتضع حداً للعجز في ميزان المدفوعات، وتقود لاستدامة العافية المالية للدولة. ويبدو أن ما طُرح من سياسات مالية تترافق مع الإجراءات الاقتصادية التي أشار إليها الرئيس في خطابه أمام البرلمان أول أمس، لا خلاف كبير حولها، لأنها بمثابة الترياق المر والدواء الذي لا بد من تجرعه، لكنها خطوة يجب أن تتبعها خطوات لضمان نجاعتها ونجاحها.. والصحيح على كل حال، أننا نعالج اليوم تراكمات قديمة لأمراض وعلل في الاقتصاد السوداني، ولم نعمل بنص القاعدة الاقتصادية الذهبية: «الزراعة في الأوقات الجيدة والجني في الأوقات الصعبة» التي طبقتها دول كثيرة في العالم تشبه اقتصادياتها حالنا الذي نعيشه، وفرطنا في وقت الزراعة المناسب عندما كانت الدولة تمتلك ترسانة لا بأس بها من الإيرادات والنقد الأجنبي، ولم نستطع أن نجني شيئاً في الوقت الصعب. وبالتوجه نحو هذا الحل الصعب الذي يشبه كأساً من السم نتجرعه، لا بد من الإقرار بأن هذه السياسات وحزمة الإجراءات التي تم اتخاذها، قد لا تحقق هدفها على المدى القريب أو المتوسط، وربما تؤتي أُكلها على المدى الطويل، وحتى هذا المدى الطويل، إن لم تُحسن إدارة هذه السياسات الجديدة واتباعها بسياسات تحفيزية للقطاعات الإنتاجية سيكون الوبال كبيراً جداً، وربما يؤدي لنتائج أسوأ مما كانت عليه الأوضاع. ولذلك يجب أن يتجه تفكير الدولة وكل المهتمين بشأن الإصلاح الاقتصادي في البلاد، نحو إنتاج أفكار جديدة وعملية في كيفية تنفيذ هذه الحزمة من السياسات لضمان نجاحها للخروج من وحل التردي الاقتصادي الذي نعيشه. والواقع يقول بكل أسف إن آليات تنفيذ هذه السياسات وحزمة الإجراءات ضعيفة جداً وليست قادرة على استيعاب هذه التحولات الجديدة، فالخدمة المدنيَّة كما هو معلوم ظلت في حال تراجع وانهيار لا مثيل له في تاريخ البلاد، وتدنت كفاءتها الإدارية وانخفض الأداء العام، وتعددت أشكال وأنواع التعدي على المال العام وخرق القوانين والتسيب وضعف قدرات الكادر العام في مستوياتها. ولا يخفى على أي مراقب ما آلت إليه الأوضاع في الخدمة المدنيَّة وخاصة الإدارات المالية والاقتصادية التي يقع عليها عبء تنفيذ ومتابعة تطبيقات هذه السياسات المالية والاقتصادية الجديدة ... وفقدت حتى وزارة المالية الاتحادية خلال السنوات المالية قدرتها على الإمساك بخطام حركة المال العام، وفلت من يدها ما يسمى «الولاية على المال العام»، ولا تستطيع حتى الآن بأية كيفية استعادة الأموال المجنبة من بعض الوزارات وضبط الإنفاق العام في الدول، وتوزيع التخصيص للإيرادات على الولايات أو مؤسسات الدولة. ولذا فإن التفكير بعمق في إصلاح آليات التنفيذ وتقويتها وتقوية التشريعات المالية وضبط الأداء المالي واستحداث آليات ذات قدرة كبيرة على العمل، هو أوجب واجبات هذا الإصلاح الاقتصادي. والغريب أن الحكومة بدلاً من أن تعالج مسألة الأموال المجنبة لدى بعض الوزارات المؤسسات والهيئات بقرارات فورية حاسمة، لجأت إلى تكوين لجنة عليا برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية لمعالجة هذه المسألة الخطيرة، وتكوين لجنة سيقود لاستثناءات وتقديرات ومعالجات مما يعني أنه قد لا يكون هناك تقييد قاطع بعدم تجنيب الأموال، وقد تضع كثير من الجهات التي تجنب المال العام مجموعة من الأعذار والمبررات للاستمرار في هذه الممارسة الخاطئة. وخطورة هذه الخطوة يمكن استخلاصها من حديث لوزير المالية الأسبق عبد الرحيم حمدي وإفاداته لقناة «أم درمان» الفضائية قبل يومين، بأن رفع الدعم عن الوقود يوفر «1.3 مليار جنيه»، بينما الأموال المجنبة إن أُعيدت لخزينة وزارة المالية الاتحادية توفر ما يزيد عن «خمسة مليارات جنيه»!!