يتغير التاريخ وتتبدل مساراته.. بلحظات فارقة عظيمة.. وهي بؤر ضوء وجذب هائلة قليلة في فضاء التاريخ العريض.. وتدخل مصر والمنطقة العربية والإسلامية في مدار هذه البؤر الضوئية.. وفي لب التحول التاريخي المهول الذي بدأت طلائعه منذ اندلاع ثورات الربيع العربي. من كان يظن أن مثل هذا اليوم يمكن أن تشاهده هذه الأجيال يحدث في أم الدنيا؟! التاريخ يعدل طريقه ويصحح دربه. والتاريخ زيح الغبار عن وجهه.. فمصر هي قلب العالم الإسلامي ومكمن قوته.. والاتجاه الحقيقي لبوصلته الحضارية. مصر التي تختار الدكتور محمد مرسي اليوم رئيساً.. هي مصر التي أنتجت القادة العظام في تاريخها السحيق وفي عصور التاريخ الإسلامي.. هي مصر أحمد بن طولون وخمارويه وصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز والظاهر بيبرس والمعز لدين الله الفاطمي وبن قلاوون.. إلي عهد محمد علي وأحمد عرابي .. حتى شهداء حركة البعث الإسلامي الحضاري.. محمد عبد الرحيم الأنصاري وعناني أحمد عوَّاد، ثم الشهيد الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وصادق المرعي وأحمد خليل شرف وعمر شاهين وأحمد المنيسي وعادل غانم ومحمد فرغلي ويوسف طلعت ود. عبد القادر عودة وإبراهيم الطيب وهندواي دوير ومحمود عبد اللطيف وسيد الشهداء سيد قطب والشيخ عبد الفتاح إسماعيل ومحمد يوسف هواش ومحمد عواد ومحمد الديب وبدر الدين شلبي وفاروق المنشاوي وزكريا المشتولي ومحمد عبد الله ومحمد منيب وصلاح حسن وكمال السنانيري. كل هذه القوافل البهاء من الشهداء.. هي التي عبدت الطريق لمصر أن تتحرر من قيدها وتنتخب هويتها وتاريخها ودورها الحضاري. هذا المشهد الجديد وهذه الأجواء التي تعيشها مصر، هي عودة جديدة لتاريخ ممتلئ بالعبر والعظات وشارات النصر. وكانت الأمة في مخاضها العسير والمنطقة كلها تبدو أنها ستكون على غير ما هي عليه وما عاشته في أزمنة القحط السياسي والتبعية، فقد بان بواسلها واستبان موطن قوتها الحقيقي، ووضح من هم الخونة ومن هم العملاء ومن الذي باع عزتها ومرَّغ جبينها في التراب وعفّر أنفها في حضيض المهانة والذل والعار. وأعادت صلابة الصمود وقوة الثورة المصرية التي اقتلعت نظام مبارك، ما كان مفقوداً لدى الأمة كلها، من ثقتها بنفسها وقدراتها وعزيمتها ومهارتها في العودة مرة أخرى لإنتاج التاريخ.. كأن دماء الشهداء والجرحى هم الآن مهر هذا الصعود فوق مدارج الكبرياء والعودة لمجرى الزمن وصناعة الحاضر، وكأنها هي القناديل والفنارات التي تضيء الطريق وسط ليل مدلهم وأمواج تلفها الظلماء وأنواء وبحار تئن فيها الرياح، ضاع فيها المجداف والملاح. استنهضت الثورات العربية وخاصة الثورة المصرية الظافرة مئات الملايين والشعوب من سباتها العميق وأفاقت من كراها، وأعادت إليها دماء الشهداء وجدانها الأصيل، وحرَّكت جوهرة الروح الصافية في دواخلها، وتوحَّد ضمير الأمة التي واجهت في تاريخها الحديث أو خلال القرنين الماضيين وحتى اليوم كل صنوف التجزئة والتبعيض والتقسيم والتمزيق، وقد عمل الأعداء على قطع أوصالها وتفتيت وحدتها وعناصر قوتها وقهر شعوبها وسلبها كرامتها ومحفزات صعودها. وكانت الأمة الإسلامية من أقصى الأرض إلى أدناها، تعيش تحت وطأة الاستعمار ثم الأنظمة العميلة التي صُنعت لتجثم فوق صدرها، وتئن وتشتعل ناراً تحت الرماد، وظل الدم يغلي في عروقها والسأم يصل بها إلى حد الاحتقان، والغضب يتراكم في قلبها.. وكان السبيل إلى فياح الخروج والانعتاق يحتاج إلى محرك ووقود.. كانت القيود والمؤامرات هي الستار الحديدي والقيد الذي طوَّق شعوبنا وحبسها ومنعها من التعبير عن ذاتها وعزتها وفخارها وخياراتها.. وظل القمع هو برنامج الحكام الطغاة لسوق شعوبهم كالنعاج إلى حيث يريدون، حتى فقدت هذه الشعوب إيمانها بماضيها وحاضرها وأنه سيكون لها مستقبل، وظنت أن ما مارسوه ضدها من تدجين وتخويف وترهيب، لن تستطيع بعده استعادة دورها والتجديف في موج الدورة الحضارية التاريخية الراهنة. ولكن الجذوة الأصيلة يمكن أن تبقى ناراً تحت الرماد، لكنها لا تخمد ولا تهمد، وتنتظر لحظتها الحاسمة لتشب نارها من جديد.. وها هي تشتعل ساطعة وناصعة كالشمس في كبد السماء. وحين تتجلى هذه المعاني وتتسق مع راهن الحال، فإن خروج الأمة من أجداث الأنظمة ومن رمس الماضي وحوائطه، يجعل من مصر اليوم بوابة ضخمة، يستعاد بها المجد المؤثل وتتضح بها الشائكات. وحين تمضي هذه الأمة لغياتها.. ستجني أمتنا من صبرها ومن سنوات القحط والعلقم شهد الانتصار!! والذي يريد أن يعرف دلالات وإرهاصات هذا الصعود التاريخي الجديد الذي كان ثمنه هذه الدماء الطاهرة والقلوب المؤمنة، فليتأمل بعمق، كيف أن الطاولة انقلبت على المتخاذلين، وكيف أنها فتحت مغاليق الأبواب التي ظننّا أنها أُوصدت إلى الأبد. فوز محمد مرسي هو عودة الروح لمصر والعافية للجسد العربي الإسلامي، وما من تحدٍ أكبر من هذا في هذا الوقت الذي تنتظر فيه مصر في يوم عرسها الكبير مسؤوليتها التي لم تغب.