وإستانبول تفرك عينيها بنشاط مع بزوغ شمس يوم جديد، صباح أمس، وأشعة شمسها الزاهية على مياه بحر مرمرة ومضيق البسفور، توحي بأن كل شيء هنا يتحرك صوب ماضٍ ومستقبل بدفع الحاضر القوي.. كل شيء له صلة بالعالم العربي والإسلامي، من سوريا إلى مصر إلى الصومال وتمبكوتو في مالي وذكرى باردة في الكيب تاون عن أحمد كاثرادا رفيق نيلسون مانديلا في النضالات الطويلة والسجن الأطول في التاريخ السياسي الحديث.. وتبدو معاندة أردوغان وحزبه في الرجوع بتركيا من براثن العلمانية الأتاتوركية إلى فياح النضارة الإسلامية وتاريخها هي الملمح الأبرز في وجه آخر دولة للخلافة الإسلامية... يخرج الجيش التركي رويداً رويداً من حلبة الصراع ويتحول من حارس للعلمانية إلى حارس للدولة وحدودها يقوم بمهمته الحقيقية ولا صلة له بالسياسة .. كل الجيوش في المنطقة التي تحاول اقتفاء أثره لا بد أن تنظر لتجربة تركيا.. وتتراجع.. العالم الذي يعيش تحولاته المتسارعة، يسكب كل دهشته على كف تركيا التي تقف على أعلى تلة من تلال التاريخ وتنظر حولها وإلى نفسها وعصورها الزاهرة السالفة... وكم هو صعب مواجهة تحدي التغيير، ميكانزم التحولات الاجتماعية أصعب بكثير من السياسية، تغيرت دولة الخلافة في توجهاتها السياسية وأوبتها المجيدة، لكنها لا تزال تعاني من عملية اقتلاع الجذور الضاربة في العمق الثقافي والإعلامي وتأثيراتها الاجتماعية، لا تزال هناك مفاوز ووهاد شديدة الوعورة بالنسبة لمن ينشدون خفق رايات الإسلام بكل تجلياته في تركيا.. لا تزال بعض النخب العلمانية مستمسكة بماضيها، وتجد مجالها الحيوي في منصات الإعلام والثقافة وطبيعة الحياة المعصرنة على النمط الغربي، الصحف ومحطات التلفزة المرئية والمنتج الثقافي والإعلامي اليومي وآلة الإعلام والإعلان الضخم، لم تزل في عجن خبزها الحافي بماء شديد النجاسة الفكرية!! لكن مع ذلك تتغير تركيا بالسرعة الهادئة المطلوبة، كل الصحف والقنوات المرئية، بالرغم من أنها تحمل صور الفتيات شبه العاريات وإعلانات الخمور وربما علب الليل، إنها بائرة على الأرفف لا يُلقي لها الشباب التركي والجيل الجديد نظرة واحدة، الكل يتابع الخطوات الجريئة في برنامج الإصلاح الاقتصادي وزيادة الإنتاج وإصلاح ما أفسدته بكتيريا السياسة التركية في حقب سابقة، ومن ثم يتابعون بدقة الرسم البياني لصعود تركيا لمكانتها الطبيعية إقليمياً ودولياً.. من أراد أن يشهد كيف تتنفس الرئة بهواء عثماني حداثي، فلينظر لإستنابول كما رأيناها صباح أمس وهي تفتح عينيها بنشاط وتسري في عروقها حيوية جديدة رغم التحدي الكبير... ولماذا هذا الرضا كله من الشعب التركي عن أداء الحكومة وعن رجب طيب أوردغان؟ الإجابة بسيطة للغاية.. وهي أن الحكومة تعمل وتجتهد وتقدم القدوة وتحاصر الفساد وتعترف بالأخطاء وترى في أي حكمة نطق بها لسان أو جالت في خاطر مخلوق أو أنتجها عقل راشد.. ضالتها فتلاحقها حتى تضعها بين عينيها وفي حضنها... الإسلام يتقدم.. بقوة وبسرعة الضوء، بالحرية والديمراطية ومنافحة الفكرة بالفكرة والرأي بالرأي والسنان بالسنان، فلكل كل شيء مناهض معادل جاهز له ويكافئه ويتغلب عليه... ربما تكون هذه هي الشفرة التي فكها أردوغان وحزبُه، وفهمها معهم الشعب التركي، أن العمل عبادة والإنجاز حسنة والتحديث واجب والحرية أصل في الدين لا غنى عنه في سبيل الإسلام نفسه... إذا كان الاقتصاد التركي ينمو بصورة جيدة والدور السياسي لتركيا يتكور وتتسع دائرتُه، والشعب منهمك في كل شيء له صلة بالإنتاج والعمل والتغيير، فما الذي تنتظره علمانية تركيا بعد أن خسف قمرُها وأصاب شمسها كسوفٌ عند خط النهاية... هذه مجرد ملاحظات سريعة لإستانبول أمس، والطريق أمامنا نحو موسكو التي وصلناها عصراً، لكن تبدو منطقة القوقاز أيضاً على أهبة لاستقبال تحول جديد..