لم أكن أرجم بالغيب حين كتبتُ وقلتُ في مناسبات عديدة إن ما يجتاح الدول العربية من ثورات أُطلق عليها عبارة (الربيع العربي) يُعبِّر في الحقيقة عن دورة حضارية جديدة أعقبت مرحلة التيه التي خضع لها عالمُنا العربي والإسلامي على مدى عقود من الزمان وإنه ليس ربيعاً عربياً إنما ربيع إسلامي جاء بالإسلام من جديد. كنتُ على الدوام أُشير إلى نظرية الاستبدال التي ثبّتها القرآن كسنّة ماضية من سنن الله في الأرض تحكي عن تبدُّل الحضارات بين انهيار وصعود أو مدّ وجزر وقلت إن هذه السنّة تسري على الأمم جميعاً سواء كانت مسلمة أو كافرة ذلك أن الله سبحانه وتعالى وضع معايير ترتقي بها الأمم وأخرى تزوِي بها وتزول وينطوي مجدها وضرب الله مثلاً لأمم سقطت مؤقتاً أو إلى حين بسبب نكوصها عن مطلوبات النصر وكثيراً ما كنتُ أشير إلى أن قوم موسى استُبدلوا وعوقبوا حينما خرجوا على تلك المطلوبات بالرغم من أن فيهم موسى كليم الله الذي صُنع على عين الله تعالى ونكصوا عن الجهاد وجبنوا (لن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) الأمر الذي جعلهم يتعرضون لوعيد السُنة الماضية قرآناً (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ذات الشيء حدث لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أُحد وهم يستغربون أن تحيق بهم الهزيمة وفيهم الرسول الكريم (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ). إذ كانت الهزيمة عاقبة التقصير. أشرت إلى أن استبدال قوم موسى كان (أربعين سنة يتيهون في الأرض) بينما كان استبدال الأندلس أبدياً حين مُزِّقت كل ممزَّق وصارت أحاديث وأثراً بعد عين. بالنسبة لعالمنا العربي والإسلامي فقد جاءت فترة الاستعمار عقب سقوط الخلافة العثمانية التي انهارت بنفس منطق السُّنَّة الماضية والأسباب التي أدَّت إلى انهيار الأندلس.. الفرق بين الأندلس والخلافة العثمانية أن الإسلام في الأندلس اقتُلع من جذوره حيث ما عادت الأرض ذات إسلام تضم مسلمين بعد أن اجتُثوا من ديارهم اجتثاثاً أما في تركيا فقد ظلت الأرض دار إسلام بعد انهيار الخلافة العثمانية بالرغم من أن القادم الجديد أتاتورك كان عدوًا للإسلام وهو ذات ما حدث بالنسبة لبني إسرائيل الذين ظلوا على دينهم رغم حالة الضعف والتيه التي دهمتهم حين خالفوا أمر موسى فنزل عليهم العقاب واستُبدل الجيل الخانع المنبطح بعد أربعين سنة بجيل جديد فُتح له هو جيل يوشع بن نون. ما حدث في مصر هو ذات ما حدث في تركيا أتاتورك حين تنكَّبت الطريق وتاهت بين النظم العلمانية المتسربلة بشعارات القومية العربية بعيداً عن الدين الذي أرسى معايير نهوض الأمم والحضارات وانهيارها. جاء مرسي على قَدَر من الله سبحانه وتعالى وكان هو القابض لمكافأة الصبر الطويل على ابتلاءات البناء الجديد الذي أنشأه البنا وتلاميذه الموقنون بنصر الله العزيز (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) فقد ارتكزت محنة إخوان مصر على عِمادَي الصبر واليقين فكان أن استحقوا عن جدارة الإمامة التي وُرِّثوا بها التمكين جزاءً وفاقاً على صبرهم الجميل على الاستضعاف الطويل على أيدي الطغاة من فراعنة القرنين العشرين والواحد والعشرين (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ). وتعود (مصر) من جديد إلى دورها التاريخي الذي سلبه إياها الأقزام من فراعنتها الصغار من لدن فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك. لم تمضِ أيامٌ على تسُّمه السلطة حتى أعلن مرسي في مؤتمر المعارضة السورية المنعقد في القاهرةالجديدة (إن الشعبَين المصري والسوري يربطهما تاريخ طويل ونضال ومصير مشترك) وأردف مرسي: (هكذا حررنا بيت المقدس وتصدَّينا للغزو المغولي وخضنا حرب أكتوبر1973م). إذن فإن مرسي لم ينسَ صلاح الدين وهو يقهر من مصر الصليبيين ويحرر الأقصى كما لم ينس قطز وهو يقهر من مصر التتار في حطين بعد أن اجتاحوا عاصمة الخلافة الإسلامية في بغداد... هذا هو الدور الطبيعي لمصر عبر التاريخ وها هو صلاح الدين يعود من جديد. كثيرٌ من المشفقين على مرسي وهم يرَون التحديات التي تواجهه ويرَون بني علمان بإعلامهم الفاجر الحقير ويشهدون مكر فلول مبارك ومجلسه العسكري المتآمر.. هؤلاء ينسَون أن من نصر مرسي وأخرجه وإخوانه من غياهب السجون وأدخل فرعون مصر السجن الذي لطالما عذب فيه إخوان البنا وسيد قطب قادر على أن يزيح العوائق أمامه ويمهد له طريق التمكين ثم من بعد ذلك يُخضعه وإخوانه للاختبار والابتلاء تصديقاً لقوله تعالى (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فكما نجحوا في ابتلاء المحنة نسأل الله أن يُعينهم على النجاح في ابتلاء منحة الحكم والتمكين وإني لعلى يقين أنهم إن اجتازوا الامتحان بنجاح فإنهم سيعْبرون بالأمة إلى النصر المؤزَّر ويحررون فلسطين ويعيدون إلى الإسلام مجده ويقودون مسيرة هذه الدورة الحضارية الجديدة إلى برّ الآمان إن شاء الله.