في الأيام التي أعقبت انتفاضة رجب أبريل عام «1985م» كتب شاعر اسمه بشير محمد بشير قصيدة ابتدرها بقوله «القصة ما قصة رغيف القصة قصة شعب داير يقيف» والآن فإن القصة قصة رغيف بدأت تطل ويجب أن يوجد لها العلاج السريع الناجع بلا تسويف وإبطاء لئلا تستفحل وتصبح أزمة والناس يمكن أن يتحملوا في أيام الأزمات الوقوف في مواقف المواصلات لأوقات طويلة ويمكن أن يقطعوا بعض المسافات راجلين ويمكن أن يتركوا مكرهين أو يقللوا من شرب الشاي والقهوة وغيرهما لكن لا يمكن أن يتحملوا أي نقص أو أزمة في الخبز.. ولعله قد حدث مؤخراً نقص في حصص الدقيق المخصصة للأفران واضطر هذا كثيراًً منها لتخفيض الكميات التي كانت تنتجها وأخذ بعضها يقلل من زنة قطع الخبز واضطرت بعض المخابز للتوقف عن العمل والإنتاج، ولعل في هذا إرهاصات بأن أسعار الخبز ربما ترتفع مرة أخرى إذا لم توجد معالجات عاجلة ويجب على المسؤولين إيلاء هذا الأمر أقصى درجات اهتمامهم مع ضرورة ترك بعضهم للأحاديث المعسولة والكلمات المنمقة ومحاولة إيجاد مبررات لا تقنع أحدًا. وأن الشعب السوداني كانت له عاداته الغذائية التي تتوافق مع بيئاته المختلفة مع وجود قاسم مشترك بينهم وكان اعتمادهم الرئيس على الذرة الرفيعة بكل أنواعها والدخن وتبعًا لذلك كانت الكسرة والعصيدة والقراصة هي السائدة في كل السودان وكان القمح يزرع في الإقليم الشمالي وتوسعت زراعته بعد ذلك في الجزيرة وغيرها، أما الرغيف فقد كان تناوله في الماضي أقل ويصنع بالدقيق المستورد الذي كان يطلق عليه اسم «الاسترالي» أو الفينو وتغيرت العادات الغذائية وأصبح تناول الرغيف هو الغالب وسط قطاعات كبيرة مع تناول الكسرة والعصيدة بدرجة مساوية له أو أقل أو أكثر في بعض المناطق. وقد كانت الأمهات والجدات يعانين يصبرن على إعداد الكسرة ويتحملن الدخاخين المنبعثة من الحطب أو القصب، أما الأجيال الجديدة فقد قل اهتمامهن بإعداد الكسرة حتى في المناطق التي يتوفر فيها الغاز.. وقد بذل عمنا الراحل الأستاذ عبد الوهاب موسى مجهوداً ذهنياً ومادياً كبيراً في اختراع مصنع لصناعة الكسرة أدى دوراً هاماً وأفاد المستهلكين كثيراً.. وفي الماضي عندما كانت الطواحين قليلة يُحكى أن النساء كن يطحن الذرة في المراحيك ثم يخبزن بعد ذلك وهي عملية شاقة.. وفي العقود الأخيرة من الزمان حدثت تغيرات في العادات الغذائية وكثر استعمال الخبز كما ذكرت آنفًا. وكان المزارعون يعملون بهمة عالية لتوفير حاجاتهم من الذرة والدخن وبيع ما يفيض لمقابلة التزاماتهم المعيشية الأخرى وكان كبار المزارعين يدفعون بإنتاجهم إلى الأسواق ولذلك أقامت الحكومة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي صوامع للغلال في القضارف وأخذ الاهتمام يتنامى بالمخزون الإستراتيجي مع تصدير ما يزيد وكان البعض يقومون بعمليات تهريب إلى بعض دول الجوار الإفريقي. وفي شهر ديسمبر عام 1989 أي في سنة أولى إنقاذ وقف الشاعر محمد عبد الحليم في مؤتمر الإعلام الأول وألقى بحماس وانفعال وطني صادق قصيدته الشهيرة «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع ونفوق العالم أجمع» وبعض المعارضين الساخرين كانوا يرددون «ونضحك مما نسمع» ولو كانت الهمم عالية والنيات صادقة وأضحى الاعتماد على السواعد والجد والعمل أكثر من مضيعة للوقت في الهتافات والاحتفالات «والكواريك» وتم تنزيل ما نادى به محمد عبد الحليم للواقع لتغير وجه السودان تمامًا. وفي تلك الأيام كان على رأس وزارة الري وزير خبير جاد هو دكتور أبوشوره وكان على رأس وزارة الزراعة وزير خبير جاد أيضاً هو دكتور قنيف الذي اهتم بزراعة القمح وحاول توسيع رقعته وزيادة إنتاجيته ومن فرط الحماس الجامح بدأ البعض في حفر ترعتي كنانة والرهد بالطواري والمحافير والكندكات مع رفع التراب بالكواريك تصحبهم كاميرات التصوير وبعد حين خمد الحماس وأضحى كل ذلك من ذكريات الماضي وفي العقدين الماضيين أخذت الزراعة تتقهقر للخلف بدلاً من أن تتقدم إلى الأمام إذ أن اصحاب الياقات البيضاء من منظري الصالونات الذين لا علاقة لهم بالإدارة ولا الزراعة والمزارعين والإنتاج والمنتجين قد انهالوا عليها تحطيمًا في القطاعين المروي والمطري ولكن كل شيء قابل للإصلاح إذا كانت هنالك إرادة للتغيير للأفضل واستغلال كل الموارد الموجودة الاستغلال الأمثل مع التواضع وإفساح المجال لأهل الخبرة والاختصاص وإعطاء الخبز للخبازين المهرة وكل ميسر لما خلق له. وعلى النظام الحاكم بجهازيه السياسي والتنفيذي أن يسارع لإيجاد معالجات إسعافية عاجلة لأن الخبز والدواء أشياء لا تتحمل التسويف والتأخير.. وأن الخبز من السلع الخطيرة وأن الثورات تنطلق من البطون وعندما قرر الخبير الاقتصادي المصري الوزير دكتور القيسوني زيادة مليم واحد على سعر الخبز هاجت مصر وماجت وكادت تحدث ثورة شعبية تعقبها فوضى ولذلك سارع الرئيس السادات وألغى هذا القرار واعتذر للشعب المصري بكلمات ناعمة رغم أنه عُرف بسلاطة اللسان. وعندما ثار الشعب الفرنسي قالت ماري انطوانيت من برجها الملوكي العاجي كلمتها الشهيرة إذا لم يجد هؤلاء خبزًا فلماذا لايأكلون بقلاوة.... ومن أسباب تفكك الاتحاد السوفييتي وذهاب ريحه نقص القمح ضمن أسباب أخرى وها هي روسيا تلملم أطرافها لتنهض من جديد وأولى رئيسها بلوتين موضوع الخبز والأمن الغذائي اهتمامًا فائقاً بعيداً لئلا يؤتى من هذه الثغرة. وإننا نأمل أن يأخذ المسؤولون موضوع الخبز والأمن الغذائي مأخذ الجد ولا يعتبر بعضهم أن تناول مثل هذه الموضوعات يعتبر من سفاسف الأمور وترهاتها ولا بد من إحداث ثورة حقيقية في القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني.