لأن الجنوبيين تعودوا الحصول على كل شيء مجاناً فهم ومنذ أن تم ضمهم الينا بواسطة الفرنجة البريطانيين ومنذ استقلال البلاد في عام 1956م، ظلوا يعيشون حياة متطفلة على الشمال.. كل شيء مجاني.. التعليم والصحة والإسكان.. ومعظمهم ترك ارضه التي قفلها الخواجات وتشتتوا في الشمال طولاً وعرضاً.. ومع كل (الحناسة) و(المرمطة)التي قدمها الشماليون حكاماً ومحكومين حتى يجعلوا الوحدة جاذبة، إلا أن الجنوبيين (رفسوا) نعمتهم بأرجلهم وصدقوا ناس باقان وتعبان وعرمان، واعتقدوا أن البترول الذي أخرجه لهم الشمال سيكون متاحاً وسيستمر الشمال في إطعامهم بالملعقة والشوكة داخل أفواههم. ولكنهم مع كل حسن النية التي قدمها لهم الشمال إلا أنهم عضوا الأصابع التي تطعمهم.. ثم قالوا إنهم يكرهون «المندكورو» وإنهم يريدون الانفصال منهم، وإنهم يريدون الاستقلال «عديل كده».. وعندما قلنا لهم اذهبوا.. قالوا إن على الشمال أن يعطيهم الحريات الأربع ويرحل لهم البترول مجاناً أو على أحسن الفروض يستحق أقل من دولار لنقل البرميل من الجنوب إلى بورتسودان.. وظل الجنوب يعتمد في ذات الوقت في أكله وشربه على الشمال حتى بعد (الاستقلال)، فالجنوب ليس فيه سكر ولا بصل، وليس فيه زيت، وليس فيه فول، وليس فيه مويه فول، وليست فيه جبنة، وليس فيه عدس، وليس فيه أرز، وليس فيه رغيف، وليست فيه طحنية، وليس فيه عسل ومربة وبسكويت وليست فيه شطة ودكوة، ولا «تماتم بالدكوة». وعلى العموم هناك مائة وسبع وثلاثون سلعة يعتمد فيها الجنوبيون علينا تماماً.. حتى الأسمنت والرملة والخرصانة.. وقبل الانفصال كانت تذهب لهم هذه الحاجات مجاناً وتأكل حكومات الولايات عائداتها. وبقيت من الجنوبيين ملايين عديدة بعد الانفصال يرفضون الذهاب إلى أهلهم، بعضهم بحجة المدارس والطلاب، وبعضهم بحجة العمل، وبعضهم ما عايز يمشي «ساكت بس».. وقالت لهم الحكومة إنها لا تمانع في منحهم فرصة لتوفيق الأوضاع، والكثيرون منهم قالوا: «توفيك تاع أوداع هو تاع شنو؟!».. وقلنا يعني على الجنوبيين أن «يدُّونا» عرض أكتافهم وليذهبوا غير مأسوف عليهم و(قطر عجيب يودي ما يجيب). وقلنا: «المشتهي الحنيطير يطير».. ولكنهم يرفضون أن يتحركوا من أماكنهم، وبعضهم يقول إنه مازال يعمل على «توفيك أوداعه». ومن مظاهر «توفيك الأوداع» عند بعضهم أن تلبس بعض النساء منهم ثياباً على الطريقة الشمالية، أو تقوم بإطلاق اسم زهرة أو نفيسة أو ثريا على نفسها، بعد أن كان اسمها ميرى أو تريزا أو جاكلين. وقلنا لهم «يا جماعة توفيك تاع أوداع مش زي كده.. توفيك تاع أوداع يعني انتكم بعملتو ورق تاع هكومة تاع بطاقة تاع شخصية تاع جواس.. إنتكم بعدين بكتبوا كلام في ورق تاع هكومة.. إنتكم بقولوا يا هو إنتو ما سودانيين».. وأصرَّ بعض الرجال منهم على أن يلبسوا جلابية اعتقاداً منهم أن الجلابية وتغيير الاسم كافيان لتحولهم إلى شماليين. وفي الأسبوع الماضي نشر زميلنا الأستاذ البصير مقالاً موسعاً حول ذلك الجنوبي الذي كان قد طلب من الجهات المسؤولة أرضاً بمساحة تبلغ آلاف الأمتار.. وجعل منها خلوة بالمباني القشية.. ثم إن جهات إسلامية قامت بتشييدها وأضافت إليها مسجداً.. والرجل الذي كان قد تقدم بالطلب ابتداءً قام بعرض الجامع للبيع على اعتبار أنه يريد «توفيك أوداعو» لكي يسافر إلى الجنوب.. فهل يجوز له بيع الجامع الذي أصلاً أرضه شمالية وبناه مانحون من أجل السودان.. ولا أدري إن كان «صاحب الجامع» قد غير اسمه الإسلامي إلى اسمه المسيحي القديم.. ولا ننسى أن دينق ألور كان مسلماً ذات يوم وكان اسمه «أحمد»، ولكن توفيك الأوداع جعله يغير اسمه للمرة الثانية إلى ألور.. ثم قد لا ننسى الجنوبي الآخر الذي كان اسمه تعبان حسن وأبوه شمالي، وغير اسمه الى حاجة تانية. على كل حال قصدنا أن نذكر القائمين بالأمر أنه لا يكفي أن يغير الجنوبي اسمه او تغير الجنوبية اسمها أو يدعي أنه مسلم لابس جلابية.. فالإسلام دين تتم ممارسته في أى مكان في العالم، وبالتالي لن يكون سبباً للتشبث بالبقاء في السودان.. وعلى كل واحد أن «يأكل نارو» ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فهو شيء يخصه في ذاته.. ويكفي أننا مسلمون ولكن لا يحق لنا السكنى والبقاء في مكة بدون «توفيك أوداع». { كسرة ماذا فعلت الجهات المعنية بأمر ترحيل الجنوبيين إلى بلادهم؟ علماً بأن بعض المنظمات والهيئات والأحزاب السودانية مستعدة للتبرع نقداً وعيناً لترحيل ما تبقى من الجنوبيين، ومع العلم بأن أربعة ملايين جنوبي يحتاجون الى السكر والشاي والملح والبصل والزيت والرغيف والصابون والكسرة والملاح و «موية الفول» والمواصلات والتعليم والملابس «والحاجات التانية الحامياني» بما تقدر قيمته بحوالى ثمانين مليار جنيه يومياً بالقديم.. يعني «ترليونان وأربعمائة مليار شهرياً» يعني حوالى خمسة وعشرون ترليون جنيه في العام.. يعني لقد كلفنا الجنوبيون الباقون خمسين ترليون جنيه في العامين اللذين بقوا فيهما معنا.