ذهل الجميع لهذا القرار المفاجئ من أحمد وحاصروه بالأسئلة عن السبب، وبالرغم من مهاجمتهم له ومحاولة استثنائه لكن كان كل واحد فيهم يقول في قرارة نفسه (يا ليتني كنت أحمد). كان أحمد يرد عليهم بابتسامة ساخرة وينظر في وجوههم (المليانة هم) ويقرأ في عيونهم حنينًا للبلد وللأهل، حنين مكتوم بي وجع الغربة وألم الغربة وشوق الغربة. وجاء اليوم الموعود وحزم أحمد حقائبه وتوجه نحو المطار والجميع يجري خلفه بعيونهم وبقلوبهم وأحاسيسهم هناك من يقول له جهرًا (وااا حلالي عليك يا أحمد) وهناك من يقاوم الألم بالدموع وهناك من تجحظ عيناه بدون كلام وبدون دموع. والغربة يا سادتي هي بكاء بدون دموع ووسادة من الألم نتكئ عليها ليلاً ونهارًا نقاومها في صمت وندفن نزف حالنا خلف ابتسامة صفراء مصنوعة نحاول بها مراعاة شعور الآخرين حتى لا يبكون لحالنا. والغربة يا سادتي سجن اختياري نقبع فيه مكتوفي الأمنيات نتلفح الشوق ونلتف في الهموم ونسبح في بحور من التوهان، بالرغم من الراحة الظاهرية إلا أن الحنين إلى الوطن والأهل يهزم كل تساهيل الحياة ومعطياتها. وفي سلم الطائرة تنفس أحمد الصعداء وأحس بنفسه بكيانه وكينونته وأحس بأنه إنسان كامل الدسم كاد يصرخ ويقول أنا هنا؛ لأن هناك لم يكن يشعر به أحد حتى ولو صرخ فهو شخص مدفون في لحد الغربة. نزل أحمد يقدل في جلبابه الناصع البياض وكأنه ملك يمشي في ملكه رافع الرأس ينظر لكل الناس في كبرياء وهمه قوية، فالأرض هنا تمنح العزيمة والقوة وتمنحك الانتماء والوطن له طعم خاص تجده رغم ما تصلك من أخبار بائسة عنه فهو يبتسم لك يتقبلك رغم آلامه ويحنو عليك فأنت عزيز مكرم في أرضك مهما قست الظروف. خرج أحمد من المطار بعد أن أكمل إجراءات الدخول وهناك كان صديقه ينتظره أخذه على البصات رأساً ولم يتوقفا كثيراً في الخرطوم فهو لا يحبها ويشتاق كثيرًا إلى رؤية أمه وأباه وأهله وقريته فقد مضى عامان ولم يرهما. وخلال ساعات من الزمان كان أحمد يجلس في حضن أمه وحوله إخوانه وأخواته وأهله يباركون له العودة ويسألون عن حال أولادهم هناك وكان أحمد يطمئنهم أنهم بخير بالرغم من أنه مقتنع بأن الجميع هناك يعيش حالة من اللا توازن النفسي في تلك الغربة. ثم قام أحمد بتوزيع الهدايا للأهل تلاحقه الدعوات من الجميع وكلمة شكرًا (وكتر خيرك)، وأخوه جاب الخروف (المو خمج) وذبحه ولف في الحلة عزم الناس كلها للغداء كرامة بعودة أخيه أحمد. (نواصل)..