في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية والقبلية التي تعصف باستقرار دولة جنوب السودان الوليدة تلوح في الافق بوادر كارثة فكرية تهدد بنسف تاريخ الدولة ومحوها من ذاكرة التاريخ، ففي الأسابيع الماضية تناقلت وسائل الاعلام خبرًا مفاده ان الجرذان والنمل الأبيض والإهمال يعصف بالوثائق والمخطوطات التاريخية لدولة جنوب السودان، ووصل الأمر إلى حد الخطورة حيث تنادى مهتمون ومثقفون من دولة الجنوب بضرورة حفظ ماتبقى من التاريخ والعمل على ترميم وتنقيح المخطوطات وحفظها وفق الشروط المنهجية والعلمية، حيث شكا المثقفون من حالة الاهمال واشاروا الى ان هنالك عدم معرفة وجهل من قبل القائمين بأمر التاريخ في دولة الجنوب. متهمين بذلك وزارة الثقافة بالفشل في وضع سياسات استراتيجية لحفظ التاريخ والوثائق. شكوى رسمية وابدت النخب المثقفة قلقها من تطور الامر ووصوله إلى درجة تصل الى فقدان ذاكرة الدولة، راسمين في ذات الوقت صورة قاتمة للأجيال التي ستأتي من بعد حيث لا تاريخ ولا مرجع يمكن الاستناد إليه.. واوضحت النخب أن حالة الضرر التي تعرضت لها الوثائق وصلت إلى مرحلة حرجة حيث لا يوجد مكان مخصص لهذه الوثائق كدار للوثائق او متحف او غيره.. واوضحوا ان الوثائق كانت موجودة داخل مدرسة ولا تمت للمعايير والمواصفات بصلة. واعلنت قطاعات واسعة مهتمة بالتاريخ عن نيتها على تقديم شكوى رسمية لمنظمة الأممالمتحدة للثقافة والعلوم والتربية «اليونسكو».. تبلغها فيها بالوضع المزري الذي وصل له الحال في دولة جنوب السودان.. اضافة الى مطالبة اليونسكو بإلزام وزارة الثقافة بتوفير مقر للوثائق والارشفة بمواصفات ومعايير عالمية.. حيث نبهت القطاعات الى ان جميع وثائق دولة جنوب السودان تم وضعها في ارفف داخل المدارس ولا يوجد من يشرف عليها بصورة دائمة. سيناريو الإهمال!! ومن هنا نقل موقع قناة الشروق الاخباري مناشدة أمين المحفوظات بجوبا يوسف فولغنسيو أونيالا الذي كان ضمن لجنة اشرف في العام 2007 على جمع أعداد ضخمة من الوثائق وقاموا بوضعها في احدى المدارس على الارض، قال «لا يمكن أن نترك النمل الأبيض والجرذان والمياه تتلف تاريخنا، لا بد من أن ننقذ هذه الوثائق.. ويضيف أمين المحفوظات «لقد حطمنا النوافذ وتركناها مفتوحة ثلاثة أيام للتهوية»، لكن الرائحة القوية والغبار الكثيف أصابا أعضاء الفريق بتوعك صحي.. ويقول «عندما رأيت هذه الوثائق في هذه الحالة، عرفت أن من الضروري أن اعتنى بها وأحميها وأحفظها للمستقبل. حماية الوثائق وبعد العثور عليها نقلت هذه الوثائق إلى خيمة كبيرة نصبت في وسط جوبا، وتمت حمايتها من الرطوبة، لكن حمايتها من الحرارة الخانقة والنمل الأبيض لم تتأمن.. وتقول نيكي كيندرسلي، الطالبة في قسم التاريخ ببريطانيا، وهي واحدة من ثلاثة أجانب يشاركون في المشروع.. هذا هو التاريخ الوطني بكل ما تحمله الكلمة من معنى، واشارت الى ان المخطوطات من العام «1903» حتى التسعينيات. 100 عام تقريباً من تاريخ جنوب السودان تعفنت في خيمة. وتضيف ملأنا حتى الآن «2300» صندوق، وقد نملأ على الأرجح «6000» ومن الكنوز المكتشفة في تضاعيف تلك الوثائق، لوائح أولى الأحزاب السياسية في جنوب السودان، ومحاكمات المشاركين في تمرد عام «1955» التي كانت العنصر المفجر للحرب الأهلية في جنوب السودان.. وتضيف كيندرسلي «لم نعثر في السابق أبداً على الأسماء وكل التفاصيل» المتعلقة بهذا الحدث. وكان الهدف الأساسي من هذه العملية برمتها، العثور على خرائط ترقى إلى فترة استقلال السودان في «1956» لتسوية نزاع حدودي مستمر مع الخرطوم منذ الانفصال. ازمة سياسة .. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر سيرمي بظلاله على الاحداث السياسية خاصة وان دولة جنوب السودان تستأنف مفاوضاتها ومحادثاتها حول النزاعات الحدودية والجغرافية مع دول السودان، مما يمثل هذا الفعل نقطة تحول في سير المفاوضات مما أظهر شيئًا من الندم والأسف على ضياع وتلف بعض منها مما يضعف موقف دولة الجنوب في القضايا الخلافية حول الحدود والتاريخ وهذا ما لفت له كبير مفاوضي جنوب السودان والأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان، باقان أموم، حيث طالب بالإسراع في عملية تصنيف المخطوطات وتقييم موقفها ومدى تأثره بسير المفاوضات. خروج ها هو تاريخ دولة الجنوب يتلاشى رويدًا رويدًا ويضرب الإهمال به من كل جانب، ولسان حال نخبها المثقفة يشفق على الأجيال القادمة من ضياع التاريخ وطمس الهوية والقلق من عدم الارتكاز على مرجعية تاريخية ثقافية تقوم عليها دولة جنوب السودان كحال غيرها من الدول الوليدة، وبين اطماع الدولة الغربية ومساعديها الذين يعملون على جعل دولة جنوب السودان دولة بلا تاريخ ولا جذور.