حصل جنوب السودان على الاستقلال عبر تمرد وسط الأدغال لذلك فإنه مما يتسق مع ذلك فيما يبدو أن أحدث دولة تنضم للمجتمع الدولي ما زالت تحتفظ بالجزء الأكبر من تاريخها.. داخل خيمة. لا تلفت خيمة بنية مهترئة في مجمع حكومي على جانب الطريق بالعاصمة جوبا انظار أغلب قادة السيارات والمشاة الذين يمرون بجوارها. وتتناثر اوراق بالية وملفات وأوراق وصور بعضها مليء بثقوب احدثتها حشرة الارضة (النمل الابيض) داخل الخيمة. لكن هذه المجموعة المتواضعة من الأوراق والتي ربما لا تصلح حتى لبيعها في معرض للاشياء المستعملة بالغرب تضم جانبا من الذاكرة التاريخية لأحدث الدول المنضمة لافريقيا. وتمثل هذه الوثائق المكومة على الأرض الخرسانية وعلى الموائد أو تطل برأسها من أجولة موضوعة على الأرض بالخيمة كنزا إذ تضم سجلات تعود إلى القرن التاسع عشر عندما كان السودان وجنوبه تحت الحكم البريطاني المصري. وتسرد هذه المجموعة من ملفات الأجهزة الحكومية والتقارير الرسمية تاريخ جنوب السودان منذ استقلال السودان الموحد عام 1956 والسنوات التي تلت ذلك وشهدت حربا أهلية استمرت بشكل متقطع حتى استقلال جنوب السودان عام 2011 والتي كان يشنها متمردون على الحكومة المركزية في الخرطوم. ونجت هذه الوثائق التي ظلت قابعة لسنوات طويلة منذ اتفاق السلام بين الشمال والجنوب عام 2005 من الحريق والحرب ومختلف العوامل. وهي أساس ما سيكون عليه الأرشيف الوطني لجنوب السودان بمجرد إنقاذ تلك المستندات ووضعها في مبنى جديد كما وعدت النرويج بإهدائه. وقال يوسف فولجنسيو أونيالا (48 عاما) وهو مفتش كبير للمتاحف والآثار في وزارة الثقافة والتراث بجنوب السودان التي سترمم الأرشيف وتحفظه "ليس هناك أمة دون تاريخ". وأضاف "الحمد لله.. نحن نعمل على إحياء الأرشيف". ودرس أونيالا الآثار في الجامعة الأميركية ببيروت قبل العودة إلى موطنه. ويشكل الأرشيف الوطني جزءا من مشروع طموح ما زال في مهده لتزويد هذا البلد الجديد بمؤسسات ثقافية للحفاظ على التراث بما في ذلك متحف وطني ومكتبة وطنية ومسرح وطني ومركز ثقافي. وربما تبدو هذه التطلعات الثقافية مبالغ فيها بل قد تكون غير واقعية في بلد افريقي حديث النشأة يسكنه أكثر من ثمانية ملايين نسمة والذي على الرغم من كل الموارد النفطية به فإنه أحد البلدان الأقل نموا في العالم حيث يعاني اكثر من 70 في المئة من السكان من الأمية. لكن مسؤولين في جنوب السودان يقولون إن الوصول إلى هوية وطنية بعيدا عن المزيج المركب المكون من أكثر من 70 مجموعة عرقية بعضها بينه خصومات تاريخية تقليدية جزء مهم من بناء الأمة لا يقل أهمية عن شق الطرق وبناء المدارس والمراكز الطبية. وقال جوك مادوت جوك وهو واحد من أبرز المفكرين ووكيل الوزارة لشؤون الثقافة "لا يمكن أن نقوي دولة دون دعم عقول الناس وقلوبهم". ويمثل التوصل إلى هذا الوعي الوطني تحديا كبيرا في بلد تنتشر فيه الخصومات العرقية بسبب التنافس على الماشية والمياه وحقوق الرعي والتي زادت تفاقما عبر قرون بسبب استعباد أشخاص بعد أسرهم وبسبب الحرب الأهلية في العقود الماضية والتي ما زالت تتسبب في سفك دماء. وقال جوك الذي يحمل شهادة الدكتوراة في علم الإنسان من جامعة كاليفورنيا "هذه مسألة ستستغرق جيلا... الدول لا تولد.. بل تصنع". وأصبحت الحاجة للشعور بوجود دولة أكثر إلحاحا في الوقت الذي يحث فيه سلفا كير رئيس جنوب السودان الذي كان من قادة متمردي الجنوب مواطنيه على التأهب لاستمرار الصعوبات أمام مواجهة عسكرية واقتصادية مع السودان المجاور. وتبلغ مشاعر الوطنية مستوى كبيرا بين الناس العاديين في جوبا ويمثل استقلال جنوب السودان عن السودان العام الماضي ترسيخا قويا للهوية الوطنية. وقال جوك "التحدي هو التحول إلى أن يكونوا أفرادا في الدولة الأمة بدلا من مواطنين في مجموعة عرقية. أغلب الناس موالون لهوياتهم العرقية". وتعج جوبا بالكينيين والأوغنديين ومواطنين من دول مجاورة لكن عندما تسأل أحدا من السكان المحليين من أين أتى يرد بكل فخر "أنا من جنوب السودان". ويجد بعضهم صعوبة في ترديد النشيد الوطني الجديد الذي كتبت كلماته بالانكليزية. وتمثل الإشارة إلى الدماء التي أريقت في النشيد الوطني الذي يحمل اسم "شهداء الحرب" أمرا أساسيا في الخطب كما أن صورة الدكتور جون قرنق الراحل زعيم المقاتلين وهو محارب من الدينكا ومؤسس الجيش الشعبي لتحرير السودان تطل من أغلب المكاتب الحكومية. كما يزين وجهه العملة الجديدةلجنوب السودان. وقال الكي سيلتر وهو اختصاصي في البرامج الثقافية يعمل لحساب منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) "ما يحافظ على ترابط جنوب السودان هو حصوله على الاستقلال لكن كان هناك شيء هنا من قبل وسيكون هناك شيء فيما بعد". ويعتقد صلاح خالد مدير مكتب اليونسكو في جنوب السودان أن استغلال العادات الثقافية الشائعة مثل الجنازات والأعراس والمرويات التاريخية من وسائل البحث عن سمات وتقاليد مشتركة بين ابناء البلاد على اختلافهم. وقال خالد "نحتاج الى إيجاد قاسم مشترك بينهم". ومن اجل صياغة هوية جمعية ابتكر جوك فكرة اقامة معرض ثقافي متجول للقطع الأثرية مثل أدوات الطهي والزراعة والأسلحة والأدوات الموسيقية. وسيتجول المعرض في البلاد ويضم معروضات جديدة وفي نفس الوقت يستعرض الجماعات العرقية المتنوعة لجنوب السودان مثل الدينكا والنوير وغيرها. وقال جوك "هذه نواة المتحف الوطني... تجمعها مع بعضها وتقول **'هذا هو ما تستخدم فيه**' سيرى الناس القواسم المشتركة وايضا التنوع". وسط حرارة خيمة الأرشيف الشديدة يظهر تفتيش خاطف ثروة من السجلات التاريخية التي يحتوي عليها منجم ذهب من المعلومات المحتملة للمؤرخين والباحثين والطلبة وللسائحين في يوم من الأيام. وتكشف الملفات المكتوبة بالانكليزية والعربية بخط اليد او بالآلة الكاتبة عن تفاصيل النظام البيروقراطي للسودان خلال الاستعمار وبعد الاستقلال عام 1956 بما في ذلك الميزانيات والموظفين وتقارير رسمية عن موضوعات بدءا من الخرائط والمعادن وانتهاء بالأراضي والنزاعات القبلية. تحمل رسالة ترجع الى الحقبة الاستعمارية عام 1935 ودونت على ورق اصفر اللون طلبا لعقد اجتماع لبحث "أمور تتعلق بصيد قبائل المادي من مياه السودان" وهو مثال على المشاكل القبلية التي كان مفوضو المناطق يستدعون كثيرا للتعامل معها. ويشير كم كبير من الوثائق في الخيمة الى فترة السبعينات حين كان مجلس تنفيذي أعلى يحكم جنوب السودان في عهد الرئيس جعفر نميري. ووضعت صورة مرسومة لنميري بالزي العسكري على طاولة في وسط الخيمة. وتظهر صور رسمية بالأبيض والأسود شخصيات ملكية خلال زياراتها للبلاد مثل الإمبراطور الاثيوبي السابق هيلا سيلاسي والأميرة البريطانية آن. في احدى الزوايا تقف دروع لقبائل النوير ورماح من التي كانوا يستخدمونها وسلة لقبائل الباري. وطلب جنوب السودان من السودان تسليمه الأرشيف والوثائق المتصلة بتاريخه. لكن بعضها حساس. على سبيل المثال الملفات الأمنية المتعلقة بعمليات الجيش السوداني في الجنوب خلال سنوات الحرب الأهلية الطويلة او الخرائط او الأطروحات بشأن مخزوناته من النفط والمعادن وهي التي يمكن أن تصبح دليلا حيويا في نزاعات الجنوب المستمرة مع الشمال بشأن ترسيم الحدود ومن يملك النفط. وحين كانوا يفتشون في الأوراق عثر صحفيون على ما يبدو أنها خريطة ترجع الى عام 1957 تشمل المنطقة الحدودية المتنازع عليها الآن في ملف غطته ثقوب أحدثها النمل الأبيض وكسته إفرازات الحشرات. ويحمل اونيالا الملف بعيدا لدراسته. وبدأ فريقه مهمة نقل الملفات من الخيمة الى مكان افضل في جوبا لفهرستها وتخزينها. وتم نقل ثلث الأرشيف بالفعل في مبادرة تدعمها النرويج والولايات المتحدة. وقدمت السفارة الأميركية تمويلا لتوفير ملفات أرشيف من الورق المقوى واجهزة مسح ضوئي الكترونية لنسخ الوثائق. لكن ثمة حاجة ماسة الى المزيد من الأموال. ووضع مكتب اليونسكو بجنوب السودان الذي يساعد ايضا الدولة الجديدة في التعامل مع نقص هائل في التعليم الذي تعانيه استراتيجية ثقافية يمكن طرحها على المانحين. لكن هذه المهمة لن تكون سهلة في وقت تقلصت فيه الميزانيات وتحتاج فيه حكومة جنوب السودان الى أموال من اجل البنية التحتية والصحة والتعليم والدفاع. وقال جوك آسفا "في دولة يمثل فيها كل شيء أولوية الآن كيف يمكن أن تنافس الفنون والثقافة بناء مدرسة او مستوصف". ميدل ايست أونلاين