ونحن بين يدي القبول للجامعات أودُّ أن أطرح بعض الأسئلة والأفكار على مفجِّري ثورة التعليم العالي التي لا يكابر أحد أنها كانت ثورة حقيقية بكل ما تحمل الكلمة من معنى لا يقدح في حقيقتها تردي الكيف في مقابل تعاظم الكم بالرغم من الحاجة إلى منح الكيف مزيداً من الاهتمام حتى تتوقف الهجرة (المجنونة) إلى جامعة الخرطوم وصويحباتها في عاصمة البلاد. بالله عليكم والخطاب موجَّه إلى ولاة الولايات وحكوماتها وإلى القائمين بأمر التعليم العالي بالله عليكم ما الذي يجعل طلاب وطالبات غرب دارفور والقضارف، ولما يبلغوا الثامنة عشرة من العمر، يهاجرون إلى الخرطوم ويتركون الجامعات التي ربما لا تبعد أكثر من مرمى حجر من دُور آبائهم وأمهاتهم؟! لماذا نستكثر على جامعة كسلا أن يدرس بها أول الشهادة السودانية الذي أنجبته إحدى مدارس كسلا في العام الماضي ولم تُنجبه مدارس الخرطوم بكل إمكاناتها وسمعتها؟! لقد والله رأيتُ رأي العين أطباء جامعة بورتسودان وجامعة الأبيض وهم يتخصصون في سنوات قياسية ويحرزون الجزء الأول والثاني وينالون لقب اختصاصي كما رأيتُ خريجي الهندسة من مختلف الجامعات السودانية وهم يعملون في مواقع معتبرة وكذلك الحال بالنسبة لجميع التخصصات. حتى طلاب الجزيرة تجدهم يقدمون لجامعة الخرطوم كرغبة أولى بالرغم من أن جامعتهم لا تقل البتة من حيث السمعة والمكانة العلمية من جامعة الخرطوم!! العجيب أن القبول الجغرافي مبدأ مُتّبع منذ عقود من الزمان إذ تجد التلاميذ في الخرطوم يُقبلون في المدارس الثانوية حسب مواقع سكنهم لكن الأمر مختلف بالنسبة للتعليم الجامعي لأسباب مجهولة بالرغم من أن الدولة كلها تعلم الأخطار المترتبة على السياسة المتّبعة حالياً. إن تكريس الخرطوم كولاية لا يقطنها إلا المتميِّزون من حيث التفوق الأكاديمي أو الثراء أو غير ذلك من شأنه أن يفاقم الأزمة التي يتشدق بها العنصريون وحَمَلَة السلاح وغيرُهم من رافعي شعار (صراع المركز والهامش) كما أن ذلك سيزيد من المشكلة الحالية المتمثلة في أن الخرطوم تحتضن ربع سكان السودان وقد نجد الشعب السوداني كله ذات يوم مكدسًا في الخرطوم تاركاً هذا القطر المترامي الأطراف خالياً من البشر ويكفي أن بعض محليات الخرطوم السبع يسكنها أكثر من سكان أكبر ولاية في السودان زائداً سكان الولاية المجاورة (الشمالية ونهر النيل)!! يشجع على ذلك الخلل وتلك الهجرة التي لا تقتصر على طلاب الجامعات أن ولاية الخرطوم بثرائها العريض تشهد طفرة تنموية عظمى من حيث العمران (الجسور والشوارع الأسفلتية الممتدة والحدائق) ومن حيث الخدمات كالصحة والتعليم والصرف الصحي وغير ذلك من مظاهر التحضر والترف مما يدفع كل صاحب مال إلى الهجرة إليها ابتغاء ما توفره له ولأسرته من خدمات لا يجدها في ولايته الفقيرة ولا أريد أن أستفيض في هذا الأمر الذي سبق أن طرحتُه على د. المتعافي أو بالأحرى داخل القطاع الاقتصادي الوزاري بمجلس الوزراء حين دعوتُ إلى التوأمة (الحقيقية) بين الخرطوم وبعض الولايات الفقيرة كبحاً للهجرة التي تُحدثها التنمية غير المتوازنة إلى الخرطوم!! ولكن هل يُطاع لقصيرٍ أمر؟! إن التفاوت بين الخرطوم وغيرها من ولايات السودان هو أحد إفرازات النظام الفيدرالي الذي لا أملُّ من ترديد أنه أحد الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها الإنقاذ بدون دراسة متأنية ولا تزال تداعياتها السياسية والأمنية والاجتماعية تتوالى وربّك يستر!! إن ظاهرة هلال مريخ اللذين يحتكران المجد الكروي كما تحتكر ولايتهما المجد التعليمي والمجد الصحي والمجد السياسي وجميع الأمجاد الأخرى لن تنتهى إلا بتخطيط كلي وإستراتيجيات عميقة تعيد التوازن بين مكوِّنات المجتمع السوداني وتُنهي التغابن وتصحِّح كثيراً من الأوضاع الخاطئة. الغريب أن فوضى سياسات القبول في التعليم الجامعي تدفع كثيراً من طلاب الخرطوم إلى الهجرة إلى الجامعات الولائية بينما يُهاجر المتميِّزون من الولايات إلى الخرطوم!! الأمر يحتاج إلى قرار سياسي كما يحتاج إلى أن تبذل الولايات جهداً وحملة علاقات عامة تقنع بها الطلاب وأولياء الأمور أن يُبقوا أبناءهم وبناتهم (خاصة) إلى جانبهم خوفاً من مصير مجهول ينتظرهم في مجتمع غريب يغيب فيه الرقيب في سنّ خطيرة لا يصمد أمام نزقها إلا أولو العزم ولا أشك لحظة أن الحملة من الولايات ستؤتي أكلها إن حظيت باهتمام الولاة الذين سيجدون من خريجي جامعاتهم الأمثلة الحيَّة التي يمكن أن تُقدَّم كدليل على النجاح والتفوق.