أواصل اقتباسي من رسالة الدكتوراه التي أُجيزت يوم الإثنين الماضي بقاعة إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله بجامعة أم درمان الإسلامية بعنوان «الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وجهوده في الاحتساب». وكما بينت في الحلقتين الماضيتين فإن موضوع الرسالة من الموضوعات المهمة والتي يحتاج لها الخاصة والعامة حيث تتناول الرسالة شخصية مهمة في التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية بصفة خاصة وللعالم العربي والإسلامي بشكل عام، ولإبرازها جانبًا مهمًا من الجوانب التي يحتاج إليها كل مسلم ومسلمة وهو الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما أن الرسالة تبرز جوانب أساسية وضرورية لما يجب وينبغي أن يقوم به الحاكم المسلم ، لذلك فقد رأيت أن ألقي الضوء على هذه الرسالة باقتباس بعض ما تضمنته من أقوال وأعمال للملك عبد العزيز رحمه الله ، ومما أقتبسه من هذه الرسالة في هذه الحلقة ما يلي : فمن أقوال الملك عبد العزيز لأمرائه التي يذكرهم فيها بواجبهم تجاه الرعية قوله : ( والآن أنتم يا الأمراء والأعيان أنتم نوابي، والذي في ذمتي في ذمتكم وبارُّ المسلمين وفاجرهم كلهم بذمتي، والذي في ذمتي في ذمتكم، يجب علينا أن المسلم الكاف ندعو له بالثبات، والمسلم الذي فيه بعض التعدي نردعه عن تعديه، ونحكم أمر الله فيه، والمسلم الذي عليه بعض الخلل في دينه، أو النقص نشير عليه وننصحه، فإن ارتدع فالحمد لله، وإن أبى حكَّمنا فيه أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم). ومن كلامه المسدّد رحمه الله في بيان أسباب حصول الخير والنعم ودفع الشر والبلاء والنقم قوله : (فاليوم إخواني يجب علينا وعليكم التفكر بالقلب والبصيرة في الأمور التي ترضي الله وتمنعنا من سخطه وعقوبته، وترك كل أمر يجلب الشر، واتباع كل أمر يوجب الخير ويمنع غضب الرب، فقد تمادى الناس- ولا أبرئ نفسي- في أمور تسخط الله وتجلب النقمة وتدفع النعمة فمن أكبرها: إعراضهم عن التحدث فيما منَّ الله به عليهم من نعمة الإسلام التي لا تعد ولا تحصى، ولا والله أخبر لها سبباً من الأسباب، لا حول ولا قوة ولا عشيرة ولا مال إلا منة الله وفضله). ومن أقواله في ذلك - أيضاً - : (فالواجب على من نصح نفسه، وأراد نجاتها أن يتقي الله في سره وعلانيته، وأن يحاسب نفسه، أقام بما أوجب الله عليه، وامتثل ما أمر الله به ورسوله، ووقف عند حدوده فلم يتجاوزها؟ أم هو منقاد مع شهواته وهواه، قد أعطى نفسه هواها ولم ينهها عن ارتكاب المحرمات؟ فلو علم أنه موقوف ومسؤول عن جميع أعماله وأقواله وأحواله لخلا بنفسه وحاسبها واتقى الله سبحانه وبحمده، فيا خسارة من حاله حال البطالين والغافلين المعرضين) . وكغيره رحمه الله من الحكام المصلحين فقد أدرك خطورة تمزيق المجتمع بالنعرات القبلية التي هي من أشد الأمراض فتكاً بالمجتمعات ، ومن أقواله في ذلك : ( ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وهل يقبل العقل أن هناك من هو أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وأن هناك قبيلة أعز من قبيلة محمد وهي قريش، ولكن النسب لا يغني عن الإنسان شيئاً، ولولا ذلك ما عزَّ سلمان الفارسي وبلال، وما لُعِنَ أبو جهل وأبو لهب، والفضيلة في الدين والرجال, والعز بالله لا بالحسب ولا بالنسب). ومن أقواله في ذلك أيضاً - : ( وقد جعل الله الفخار لأيٍّ كان بالتقوى لا بغيرها، فلم يكن في الإسلام تفاضل بين العربي وغير العربي إلا بها، وفخار العرب وعزهم بالإسلام وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم) . ومن عنايته رحمه الله بالصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام قوله : (وأعظم الخلل وقع ممن ينتسب إلى الإسلام في أعظم الأركان بعد الشهادتين, وهي الصلاة، وكثر الاستخفاف بها, وهي عمود الإسلام، فإذا سقط عمود الفسطاط لم تنفع بعده الأطناب، كما في الحديث: »العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر«...). ويؤكد الملك عبد العزيز رحمه الله أن من أهم واجبات هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أنشأها هو العناية بشأن الصلاة فقد قال : (وقد عينَّا نواباً لتفقد الناس عند الصلاة، ومعرفة أهل الكسل الذي اعتادوه، وعرفوا من بين المسلمين بذلك، فيقيمون على من قدروا عليه الحبس والضرب، وما هابوه ولم يقدروا عليه فليرفع أمره لنا وتبرأ ذمتهم لذلك، ولا يكون لأحد حجة بها علينا, كذلك إنا ملزمون أهل كل بلد بالقيام بذلك، ومن لم يقم به من أمير أو غيره بان لنا أمره واتضح لنا غيُّه). ومن كلامه الجميل عن صيام شهر رمضان قوله : ( فصيام شهر رمضان فضل من الله؛ لأن الأعمال كلها تعرض على الله يوم القيامة ويحاسب عباده، إلا الصيام فإن الله يقول عنه: »إنه لي وأنا أجزي به« وهو فضل من الله أيضاً لأنه جعل هذا الشهر المبارك تكفيراً للسنة كلها، علاوة على أنه يشعر الغني بحالة الفقير، ويبعث في قلبه الرحمة له والعطف عليه، حتى يفزع إلى مساعدته ومعاونته ومؤازرته، وفي ذلك من جميل التعاون ما فيه ) . ولم يغفل الملك عبد العزيز رحمه الله التحذير ممن افتتنوا بالغرب في معتقداتهم وأفكارهم وسلوكهم فمن أقواله في ذلك : ( يقولون إن المسلمين في تأخر، وبحثوا ليجدوا طريقة لتقدم المسلمين فما وجدوا طريقة أمامهم إلا أن يقلدوا الأوروبيين، ولكنهم لم يقلدوا الأوروبيين فيما كان سبباً لقوتهم ومنعتهم... بل قلدوهم فيما يخالف ما ينتسب إليه المسلم، وقلدوا ملاحدتهم في الإعراض عن دين الله، ثم هم بعد ذلك يدعون أنهم مسلمون، وأنهم يدافعون عن الإسلام). وإن من يقرأ في موروث هذا الملك الموفق ويطلع على عباراته ليشهد له بالبصيرة ، والفقه في دين الله تعالى ، ومعرفة أحوال الناس تجاه دينهم ، ومما يؤكد ذلك قوله التالي : ( هذا الذي حملني على هذه النصيحة؛ هو: ما رأيت في هذا الزمان وأهله من الفساد، وما اقترفناه من الذنوب كبيرنا وصغيرنا، نستغفر الله ونتوب إليه وما عليه الحالة اليوم, فالناس في هذا الزمن قد انقسموا على أقسام شتى: منهم العارف بالله وبكتاب الله، والذين يعتقدون عقيدة السلف الصالح قصروا في العمل، وتركوا النصيحة، ولم يقوموا بالواجب. وفريق عرف أن الله ربه، والإسلام دينه، ومحمداً صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله، لكنهم لم يعرفوا ما هو الواجب عليهم في كونهم عرفوا الله وما حق ذلك، ولا عرفوا الإسلام وحقيقته, ولا عرفوا ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم ، وجاهد عليه. وآخرون اتخذوا أديانهم أهواءهم، واتبعوا كل ناعق، فمنهم الملحد والعياذ بالله، ومنهم المتبع لهواه، ومبتدع للطرق والمضال التي نهانا الله ورسوله عنها. ومنهم من لم يعرف طريق الحق من الضلال، وتمسك بقوله: إنه مسلم، ولم يفرق بين حق وباطل. ومنهم من أحدث له الشيطان من الخيالات والمفاسد ما أضله به، وادعى أنها الحياة الجديدة، وأنها الحرية، وأنها المدنية، وعملها بنفسه، وجد واجتهد في الدعوة إليها والإنكار على من خالفها، ويقول: ينبغي أن نتقدم قدام ولا نرجع وراء، ومعناه في التقدم: هو التمدن والحرية، والتأخر هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومذهب السلف الصالح والتعصب فيه ). وأختم اقتباساتي من هذه الرسالة بهذا النقل فمن أقوال الملك عبد العزيز رحمه الله :( إن بعضكم يلتبس عليه الأمر في بعض أئمة المسلمين ومعتقداتهم، ويخص أحداً دون أحد بالتفضيل، فأحببتُ أن أشرح أمر الاعتقاد الذي ذكره المشايخ في خطبهم، وهو ذكرهم أن معتقد المسلمين واحد - حضرياً وبدوياً - تعرفون أن أصل المعتقد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم السلف الصالح من بعدهم، ثم من بعدهم أئمة المسلمين الأربعة: الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد والإمام أبو حنيفة، هؤلاء اعتقادهم واحد في الأصل، وهو أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتقرير ذلك في كتب العلماء الذين تراجعونهم - بحمد الله- كل ساعة، فهم في هذا الأصل واحد , وقد يكون بينهم اختلاف في الفروع، كلهم على حق - إن شاء الله - ومن حذا حذوهم إلى يوم القيامة, ونحن - أهل نجد كافة - أخذنا بمذهب الإمام أحمد بن حنبل في الفروع، وإلا في الأصل نحن والمذكورون أعلاه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم....) وبهذا أصل إلى نهاية هذه الحلقات وأرجو أن ينفع الله بها الخاصة والعامة ، كما أسأله أن يرحم الملك عبد العزيز رحمة واسعة وأن يوفق جميع ولاة المسلمين إلى ما فيه الخير للإسلام والمسلمين.