كان أبو يحيى مالك بن دينار من ثقات التابعين.. بلغ الغاية في الزهد والورع.. قالوا كان يعلم العلماء الأبرار.. وكان بعيد النظرة عميق التأثير فيمن حوله.. من أقواله.. «خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها.. قالوا له وما ذاك؟ قال: معرفة الله.. وقيل جاء لص ليلاً فدخل الدار وبحث عن شيء يأخذه فلم يجد، فأراد أن ينصرف، فناداه مالك بن دينار قائلاً: لم تجد شيئاً من الدنيا، أفترغب في شيء من الآخرة؟ قال اللص: نعم . قال: فتوضأ وصل ركعتين ففعل اللص ثم جلس، ثم خرج معه إلى المسجد فسألوه: من هذا؟ قال: جاء ليسرقنا فسرقناه. وكان مالك بن دينار عليه رحمة الله ربانيًا بليغ الموعظة وكان لا يدخرها ولا يبخل بها متى ما جاءت.. جاءه أهل بلدته في عام جدب وقحط وقلة من المطر.. فقالوا له: يا إمام استسق لنا.. فنظر إليهم مليًا وقال : أتستبطئون المطر؟! فإني والله أستبطئ الحجارة!! يذكرهم بذنوبهم وإعراضهم عن الطاعات وإقبالهم على المعاصي وانشغالهم بأمور الدنيا عن أمور الآخرة.. يعظهم بذلك ليثوبوا وليُقبلوا على ربهم وعلى الاستغفار والدعاء لأن الاستغفار هو أوسع أبواب رحمة الله سبحانه وتعالى.. فمن لأهل السودان بمالك بن دينار يفتح أبصارهم وبصائرهم على المعاصي والذنوب التي يرتكبونها صباح مساء بلا التفات ولا انتباه.. إن مهمة مالك بن دينار السوداني أشق وأصعب وأعسر من مهمة مالك بن دينار أبي يحيى البصري.. ذلك أن أهل البصرة في زمان أبي يحيى كانوا يرتكبون الذنوب ويقرون أنها ذنوب، وكانوا يتناهون عن المنكر ويتآمرون بالمعروف. وكانوا أسرع استجابة لداعي الحق وأمين ألين أفئدة وأرق قلوبا من رعية مالك بن دينار السوداني الذين لا ينكرون منكرا ولا يعرفون معروفاً.. ولو وقفوا عند هذا الحد لهان الأمر قليلاً.. ولكنهم يرون المنكر معروفًا والمعروف منكراً.. ولو وقفوا عند هذا الحد لرجونا أن يثوبوا ويتوبوا ويرجعوا ويستغفروا.. ولكنهم لا يفعلون شيئاً من ذلك. بل هم يدافعون عن المنكر.. ويعتبرون الدفاع عن المنكر من الدين.. من أمثلة ذلك.. بص الوالي ينهب الأرض في أمسية من أماسي رمضان بعد الإفطار وقبل صلاة العشاء وقد امتلأ بالركاب والمغني يرفع عقيرته يلعلع بكلمات موغلة في العشق والغزل والسماجة.. والموسيقا تصم الآذان.. والأسوأ من كل ذلك.. أن سائق البص يرفع صوت المذياع أو المسجل إلى آخر ما يمكن حتى أنك لا تسمع ما يقوله جارك.. فينبري رجل من الركاب ينبه إلى المخالفة.. وهي مخالفات وليست مخالفة واحدة.. ويطلب في رفق وفي لطف تخفيض الصوت أو إغلاق المسجل.. ولكن الكمساري ينظر إليه في ازدراء أو ربما في بلاهة.. وكأنه لا يسمع.. ويكرر الرجل الرجاء والكمساري الذي يسمونه المشرف يحملق في الرجل ولا ينطق بحرف.. وتعلو وتيرة المسألة.. ويصر الرجل على إسكات المغني المبتذل.. ويبدأ في نثر حججه .. الأولى: إن العقد بين الناقل والراكب هو إيصاله إلى مقصده وليس إسماعه أي شيء مما يرغب فيه أو لا يرغب.. وإذا لم يرغب فعلى الناقل أن يلتزم بالعقد.. وإذا لم يوفر الناقل تسجيلاً وغناءً فلا يستطع الراكب الراغب أن يطالب به لأنه ليس في العقد ثم دفع برمضان.. وأن الكلمات مبتذلة وخالية من المضامين العادية دعك من المضامين التي ترقى الحس والذوق.. ولم تنفع كل ذلك وأخيراً دفع بحرمة الغناء وحرمة المعازف.. ولم يعدم من ينبري للدفاع عن هذه المحرمات الثلاث أو قل المخالفات وأغرب ما في دفع هؤلاء المبطلين.. أن المطالبة بإسكات صوت المغني النشاز المبتذل، في ليل رمضان أنه ضرب من عدم التيسير.. وضرب من التشدد.. رغم كل الذي قلناه.. فقد انتصر الحق.. لأنه حق وليس لكثرة المدافعين.. مع أن عدداً مقدراً من الركاب وقف وقفة قوية واستهجن موضوع الغناء وندد بغياب الإدارة عن الموضوع وتركه لإشخاص لم يتم اختيارهم على مزايا تتجاوز آلية القيادة وجمع حصيلة الرحلة من الركاب.. وتوقف المغني المبتذل.. وأنا أطالب الوالي الآن.. الآن.. بإصدار أمر بإيقاف هذه الممارسات الخاطئة التي تدخل في صلب ارتكاب المحرم في رمضان وغير رمضان.. والتي تؤدي إلى فرض ارتكاب جرعة محرمة بنص الكتاب والسنة.. زيادة على أن ذلك ربما فتح بابًا للفتنة بين الركاب وأرى أن بالقرآن ودروس الشيخ محمد سيد حاج وغيره من الدعاة. هذا مثال واحد مما يجري في المجتمع.. والناس ينظرون إليه دون أن يحركوا ساكناً.. وفي ذات الوقت يستغربون كيف يخرج عليهم وزير الكهرباء والسدود بما يجعلهم يتذوقون المعيشة الضنك التي وعدها الله المعرضين عن ذكره. ومن الأمثلة الأخرى مثال متعلق بالعبادة وهو ظاهرة ممارسة البيع والشراء في رحبة المسجد وفي ساحته والمعروف أن رحبة المسجد جزء منه وقال خليل في المختصر «ورحبته كهو» والبيع فيه محرم لما اورد الإمام الترمذي في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم من يبتاع في المسجد فقولوا له لا أربح الله تجارتك» وصححه البخاري فيا أهل السودان.. لا أعلم لكم طريقًا إلا طاعة الله في العسر واليسر والمنشط والمكره وفي الرضا والغضب وفي كل حال وعلى كل حال ومحاسبة النفس والندم على ضياع ما مضى من العمر في غير طاعة .. وكان مالك بن دينار يقول «إذا لم يكن في القلب حزن خرب، كما إذا لم يكن في البيت ساكن خرب».