أوردت قناة العربية قبل أيام خبراً مفهومه أن السيد علي عثمان النائب الأول لرئيس الجمهورية قد حوصر وطرد من قبل جماهير غاضبة بمدينة كوستي، ولكن الناس تفاجؤوا بأن النائب الأول في ذلك اليوم كان في الخرطوم ولم يغادرها قط إذ كان يحضر ويرعى مؤتمر المسؤولية الاجتماعية. ثم جاءت بعد ذلك بأيام قليلة قناة (بي-بي-سي) أعرق قنوات الأخبار في العالم وأكثرها شهرة لتقول إن البطل السوداني أبوبكر كاكي قد توجه إلى أحد المراكز في لندن طالباً حق اللجوء السياسي، ولكنّ الناس تفاجؤواْ بأن كاكي ليس في لندن أصلاً وإنه في السويد يكمل إعداده لخوض منافسات الأولمبياد، و لن يصل لندن إلا بعد أيام من خبر (بي-بي-سي) الكاذب. إنّ انتقال القناتين إلى نقل الأخبار المكشوفة الكذب بهذه الطريقة لهو أمر له ما وراءه، إذ عُرف عن القناتين لا سيّما (بي-بي-سي) أنها تدس الأخبار الكاذبة بعناية في دسم الأخبار البديهية الصحة، أو تنقل أخباراً يصعب التحقق من صحتها، مثل أرقام ضحايا الحرب في دارفور، أو امتلاك فلاناً من المسؤولين أرصدة في مكان ما، ولكن أن تقع القناتان في فخ نقل أخبار تم كشف كذبها بكل سهولة الأمر الذي وضع سمعة الجهتين على المحك، لهو مما يعجب له، ولا يخلو الأمر من أحد ما سنورده لاحقاً من تعليلات. أولها أنّ القناتين اندفعتا وراء مخبريهما من مُعادي الحكومة السودانية حتى أوردوهما هذا المورد القذر، وبذلك يكون شغف القناتين بالإساءة للسودان قد منعهما مما يجدر بهما من التحقق من صحة ما يردهما من أخبار، وإن كان ذلك كذلك فإن أبسط ما يقال هو أن القناتين قد أصابهما ما يسمى (حراق الروح) لعدم نجاح حملتهما الأخيرة في دعم ما ظناه ربيعاً سودانياً. فلعل القناتين تتأنيان لاحقا في أخذ الأخبار من أفواه المرتزقة المعادين لحكومة السودان الذين يتكسبون بنقل مثل هذه الأخبار للقناتين وأشباههما، فهم يكذبون لعلمهم أن القناتين تتحرقان شوقا لتلقي كل خبر سوء عن السودان، وإنهما ساعيتان لنشر كل ما يشوه صورته، ويسيئ إليه. التعليل الثاني هو أن هناك اتجاهاً جديداً في هذه الصحافة الموجهة يقول بأن نشر الأكاذيب ليس بهذا السوء، وأن عجلة الإعلام الدوارة بسرعة تجعل مثل هذه الهفوات للقناتين تنسى بسرعة بينما يبقى أثر الكذبة في دماغ المتلقي، وإن من المعلوم أن هناك تيارات إعلامية لا أخلاقية تؤمن بأنه »بينما يكتشف الناس أن ما قلته كان كذباً فإن الكذبة تكون قد أدت المطلوب منها بالفعل،« وبينما يبقى أثر الكذبة في العقول ينسى من أطلقها، ويؤمن هؤلاء بأنّ قوة الأداة الإعلامية لا يكمن في صدقها، وإنما في براعتها في جعل ما تبثه يبدو في غاية الصدق. وإن كان هذا التعليل صحيحاً فإننا موعودون بسلسلة من مثل هذه الأكاذيب البلقاء المشهورة، فضلاً عن الخفية المغمورة في تلافيف الأخبار والتقارير. التعليل الثالث هو أن القناتين العريقتين(و إن كان وصف العراقة يصح أكثر على بي بي سي) قد قررتا ركوب موجة إعلام الإنترنت والفيسبوك وقالتا: لِمَ لا نضع وجهاً شبابياً ونتخذ أسلوب شباب الفيسبوك الجدد، والمعلوم أن الفيسبوك هو أكثر وسيط إعلامي يضج بالأكاذيب والقصص المختلقة والحكاوي الخيالية، ولِمَ لا؟ ولا حسيب عليه ولا رقيب، ولا مسؤولية على كتابه ومؤلفي رواياته، إنّ في هذا الفضاء »الإسفيري« ما يذهل له لب الحكيم من أنواع الافتراء وصنوف الكذب مع قدرة كبيرة على الانتشار والتأثير، وآخرها وأشهرها ما رُمي به الأستاذ ربيع عبدالعاطي ونسب إليه زوراً أنه قال إن دخل الفرد الشهري في السودان 1800 دولار! وقد نال السيد عبدالعاطي على الإنترنت من السباب والشتم والسخرية ما أرجو أن يجعله الله في ميزان حسناته. فلعل القناتين رجوتا لأكاذيبهما من السيرورة والتأثير ما تحظى به أكاذيب الكاذبين الذين يحفل بهم الفيسبوك وغيره، ناسيتان أنّ أكاذيبهما تُسأل عنها مؤسستاهما المحترمتان، بينما أكاذيب الفيسبوك يعود لومها على أفراد مغمورين مجهولين لا يعرف أحد مَن هم. القصد..، إنّ حادثة الخبرين الكاذبين الذين أتيا من مؤسستين إعلاميتين بحجم بي-بي-سي و العربية لهو مما ينبّه المتلقي السوداني والعربي إلى أن ينظر إلى أخبارهما (وغيرهما) بعين الريبة و الاتهام، ويُخضِع أخبارهما لميزان التمحيص والتدقيق، ويجب أن يتوقف العقل العربي عن شرب المادة الإعلامية كما يراد له أن يشربها حتى لا يقع تحت تأثيرها المسكر فيأتي بما لا يحمد عقباه من الأفعال.