رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين ، فإن الصحابة لما أمسكوا بغلامين وكانوا يريدون أن يكونا لأبي سفيان وأُخبرا بأنهما لأبي جهل ضربوهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، فلما قضى عاتب أصحابه في ذلك. من أطاع الله طوَّع الله له كل شيء ، قال تعالى :} إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ { . . دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه وكثرة تضرعه في هذه الغزوة وفي غيرها دليل على مسألتين : الأولى: أن الدعاء عامل رئيس من عوامل النصر على الأعداء، فهو السلاح الفتّاك المهمل . الثانية: أنّ العبادة لا ينبغي أن تكون إلا لله، فالكل فقير إلى ربه، والله هو الغني الحميد الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، فكيف يُلجأ إلى غيره وخير خلق الله كان يلجأ إليه ؟! عظيم حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح لذلك، فمر بسواد بن غَزِيَّة وهو مستنصل من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح وقال :«استو يا سواد» . فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال:«استقد». فاعتنقه فقبل بطنه، فقال صلى الله عليه وسلم:«ما حملك على هذا يا سواد»؟ قال يا رسول الله حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخرَ العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير. عجيب أن يتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقصاص في هذه الأزمة التي تمر بها أمته! ومالي أعجب وهو الذي قال : «لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ». وفي القصة كريم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أنّ السلطان فمن دونه لا يعلو منهم أحد على الحق، فإذا ظلم الحاكم أحداً من رعيته وجب عليه أن يمكن المظلوم من القصاص، وهي فائدة جرى القلم بها ولا أطمع أن يُشاهد ذلك في أرض الواقع !! الحنكة العسكرية في قيادة النبي صلى الله عليه وسلم لجيشه، فلقد أمر أصحابه برمي الأعداء بالنبل ثم قال : »«واستبقوا نبلكم». وبهذا تقل منصرفات الحرب، ويثخن في العدو، ويدخر الجهد، وتعلو الروح المعنوية بالرؤية العاجلة لأثر النصر. الجنة تحت ظلال السيوف فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه :«قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات وَالْأَرْضُ». فقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السموات وَالْأَرْضُ؟ قَالَ:«نَعَمْ». قَالَ: بَخٍ بَخٍ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا . قَالَ :«فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. إنّ المسلم لا يرضى أن يساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه حقيقة المحبة، ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا ، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ ؟ قَالَ : قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا . قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ مِثْلَهَا، قَالَ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ:«أَيُّكُمَا قَتَلَهُ»؟ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُ. فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا»؟ قَالَا: لَا . فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ:«كِلَاكُمَا قَتَلَهُ»، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ. قال النووي رحمه الله: «قال أصحابنا : اشترك هذان الرجلان في جراحته، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولاً فاستحق السلب، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلاكما قتله» تطييباً لقلب الآخر من حيث إن له مشاركة في قتله، وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه متمنعاً إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح، فلهذا قضى له بالسلب. قالوا: وإنما أخذ السيفين ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما، فعلم أن ابن الجموح أثخنه، ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب، فلم يكن له حق في السلب. هذا مذهب أصحابنا في معنى هذا الحديث». ثم احتز ابن مسعود رضي الله عنه رأسه بعدُ وذهب به إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم».