كانت عاتكة قد رأت رؤيا وقصتها على أخيها العباس وقصها العباس على الوليد بن عتبة وكان له صديقًا.. تفشّى الخبر حتى بلغ أبا جهل قالت عاتكة: رأيت راكبًا على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته :«ألا انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث» فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله متل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ألا انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث. ثم متل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة. وبعد هذه الرؤيا بثلاث ليال جاء ضمضم بن عمرو الغفاري مبعوثًا من قبل أبي سفيان يستنفر قريشًا لحماية بضاعتهم قبل نجاته بها.. وسمع صوته وهو يصرخ ببطن الوادي وهو على بعيره وقد جدع بعيره وحول رحله وشقّ قميصه وهو يقول: اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه لا أراكم تدركوها.. الغوث.. الغوث.. فسخر أبو جهل من رؤيا عاتكة وقال للعباس أما يكفيكم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم يا بني عبد مناف.. أما نحن فسوف نتربص بكم هذه الثلاث فإن لم يكن منها شيء كتبنا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. وها هو جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف يقول إنه رأى فيما يرى النائم وإنه بين النائم واليقظان «إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، قتل شيبة بن ربيعة، وأبو الحكم ابن هشام وأمية بن خلف وفلان وفلان فعدَّد رجالاً ممن قُتل يوم بدر». فأعاد أبو جهل تهكمه أيضاً فقال: وها هو نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا. وخالف أبوجهل وهو رئيس القوم والمطاع فيهم رأي أبي سفيان بالرجوع بعد أن نجّى الله العير وقال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم عليه ثلاثًا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا.. فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا. وكان حوار بين طالب بن أبي طالب وكان في جيش قريش.. وبين رجل من قريش فقال الرجل لطالب: والله لقد علمنا يا بني هاشم وإن خرجتم معنا فإن هواكم لمع محمد. فرجع طالب وارتجز: لاهم ان يغزون طالب.. في عصبة محالف محارب في مقنب من هذه المقانب.. فليكن السلوب غير السالب وليكن المغلوب غير الغالب ومما فتّ في عضد قريش أنهم أرسلوا عميرا بن وهب وكان شيطاناً من شياطين العرب لجزء من أصحاب محمد فاستجال بفرسه حولهم جولتين ثم جاء فقال: «ما رأيت شيئاً ولكنني يا معشر قريش قد رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع.. قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فرُوا رأيكم. فأوهن عزائم الناس ما شاء الله. وهنا تحرك حكيم بن خزام لتلافي الأمر وسعى إلى عتبة بن ربيعة وكان ذا مكانة ووجاهة منذ أن أجار بني كنانة وقريش من حرب الفجار وهو حدث صغير السن وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال يوم بدر: إن يكن في القوم خير ففي راكب الجمل الأحمر يعني عتبة إن يطيعوه يرشدوا.. فجاءه حكيم وقال له إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها فهل لك إلى أن لا تزال تُذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمر بن الحضرمي. قال قد فعلت وإنما هو حليف فأت ابن الحنظلية فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. وابن الحنظلية هو أبو جهل أمه من بني حنظلة من بني تميم بن مر فاسرع حكيم إلى أبي جهل ونقل إليه ما رآه عتبة فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه وما يعنيه ما قال ولكنه قد رأى محمداً وأصحابه أكلة جزور يعني قليلين وفيهم ابنه قد تخوفكم عليه. كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد.. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثارك بعينك فقم فأنشد حفدتك ومقتل أخيك.. وكان أخوه ممن قتلته سرية عبد الله بن جحش بالقرب من الحرم قبل بدر بشهور.. فقام عامر وكشف نفسه وصاح واعمراه.. واعمراه.. فحميت الحرب وافسد على حكيم وعتبة رأيهما. فلما علم عتبة بما فعله أبو جهل قال: سيعلم مُصفِر استه من منا انتفخ سحره! أنا أم هو.. والصفرة نوع من الطيب. والاست هو الدبر يقول عتبة إن أبا جهل يضع الصفرة على دبره. هذا ما كان من أمر قريش.. اختلاف واشتجار ومشاتمة وخوف وهلع وانشقاقات وانقسامات.. وتحاسد وتباغض وكان ذلك حتى قبل أن يخرجوا من مكة فقد كان أمية بن خلف وكان كبيراً في السن وجسيمًا يريد أن يُخرج رجلاً مكانه فذهب إليه عقبة بن أبي معيط بمجمرة وهي المبخر وهو في الكعبة في جماعة فقال له يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء ووضعها أمامه وانصرف.. فقال له أمية: قبّحك الله وقبّح ما جئت به ثم خرج أمية بن خلف إلى مصرعه مع الناس!! فالأسباب اللدنية تعمل في الفريقين.. لكل قادح وفاضح وجارح وسط قريش حتى كأنه لا يشتركون في رأي ولا في عقيدة.. وكانت تعمل وسط المسلمين بكل ما هو كريم وعظيم وقويم حتى كادوا أن يصبحوا كالقطعة الواحدة يقومون معًا ويقعدون معًا ويقولون معًا ويسكتون معًا.. وكانت الأسباب اللدنية تتدخل حتى في الأسباب الكونية والمادية كل ذلك تهيئة لنصر وهزيمة.. نصر يكون بداية لتاريخ أمة وهزيمة تكون ختاماً لمسيرة أمة.. لم يخرج المسلمون لقتال.. خرجوا من أجل القافلة.. وما كانوا يظنون أنهم يلقون حربًا.. وخرجت قريش للقتال.. لم تخرج إلا له وحتى لما علمت أن العير قد نجت.. لم تقبل إلا أن تقاتل.. أطراً وأشراً وعلوًا في الأرض واستكباراً.. كل ذلك ليعلم الناس أن النصر في بدر أمر مقدر وأنه صنعة حكيم هيأ له الأسباب ومهّد له السبل وكانت قيوميته في الأسباب الكونية واللدنية هي أوضح ما في الأمر «إذ يوحي ربك للملائكة أني معكم» «فثبتوا الذين آمنوا» «سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب» هذه المعية والقيومية هي التي صنعت الأحداث في بدر وبعد بدر.. هذه القيومية والمعية.. هي علم الانتصار.. وهي ليست في الحرب.. ولا الإستراتيجية العسكرية.. فهذان يتغيران.. ويتحوران.. ويختلفان.. ولكن علم الانتصار هو علم الانتصار.. في كل زمان ومكان.. في كل حين وفي كل آن.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. لذلك كثيراً ما تأتي انتصارات الناس.. مؤقتة.. ومصنوعة.. ومتوهَّمة.. بل هي في الغالب الأعم كذلك.. فأهل الدنيا سوى المسلمين إلى يوم القيامة بين غالب اليوم ومغلوب غد.. إلا الإسلام.. وأهل الإسلام الذين هم أهله لا أدعياؤه.. فانتصاراتهم مطلقة. ليست فقط كاملة أو دائمة.. بل هي مطلقة.. انتصارات أهل الدنيا متوهمة.. ومنقوصة.. ومصنوعة.. ومؤقتة لأن المنتصر لا يحمل معه إلا فقه الحرب.. وفقه الموت.. وفقه الاستكبار وفقه الاستعلاء والاستيلاء.. والمنتصر المسلم يحمل فقه الحرب.. وفقه السلم جنباً إلى جنب.. «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا» فقه السلم وفقه الحرب في آن واحد.. كتب عليكم القتال وهو كره لكم فقه السلم وفقه الحرب في ديوان واحد «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله» فقه السلم وفقه الحرب متلازمان متمازجان.. «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله» فقه السلم وفقه الحرب.. متلازمان ومتكاملان «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم» فقه السلم وفقه الحرب.. يعملان معًا للردع وللكف «ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم» فقه السلم.. وفقه الحرب.. وفقه السلم دائماً مقدَّم على فقه الحرب.. وأول آية نزلت لم تحمل إلا ذات المعنى.. السلم مقدم على الحرب.. والحرب لا تأتي إلا رداً للظلم والعدوان. «أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله» أما بدر فقد كانت بيانًا لعلم الانتصار الإسلامي بكل مكوناته الفئة القليلة المستضعفة المظلومة.. المسالمة.. العادلة تغلب الفئة الكثيرة الباغية الظالمة المقاتلة المائلة عن العدل والحق.. هذه بدر.. تأسيس لمنهج.. وميلاد لأمة.. العلماء يتحدثون كل اللغات الأخ الرئيس كتل الدش لعرمان.. ووضع عقار في خانة اليك.. وأدى الحلو إسنا.. والأتو حقو والتحدي أكبر.. الفورة بألف ولا توقيع إلا ومن ورائه سند شعبي والعلماء قادة الرأي في البلاد. وليس الطابور.. والدائرة تدور على الطابور وغداً تدور الدائرات فشمري