لقد كانت حكاية الحباب مع بناء الحوض حكاية واحدة من حكايات كثيرة.. وأنموذجاً رائعاً من نماذج كثيرة وعديدة تشير بوضوح إلى امتزاج الأسباب الكونية المادية بالأسباب اللدنية لصناعة الانتصار الإسلامي الذي لم تشهد الدنيا مثله ولا قريباً منه. الحباب رجل حرب .. وصاحب خبرة وتجربة في هذا المجال.. ومع ذلك فقد قدم الأسباب اللدنية على الأسباب الكونية.. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدب وتوقير: يا رسول الله أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه ولا نتأخر؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فلما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمر إنما هو الرأي والحرب والمكيدة.. أجاب الحباب بطريقة غريبة فيها ثقة الرجل المجرب الذي عركته الحروب وعركها وصارعته الخطوب وصرعها قال: فليس هذا لك بمنزل!! ثقة ووضوح ويقين ومعرفة الأمر على وجهه الصحيح.. ثم أشار ببناء الحوض عند أدنى ماء من القوم وتغوير ما بعد من القلب والآبار «فنشرب ولا يشربون» قال: لقد أشرت بالرأي، ثم ارتحلوا وبنوا الحوض ودفنوا ما بعده من الآبار حتى لا يشرب كفار قريش. ثم جاء سعد بن معاذ بفكرة إعداد مركز القيادة وهو بناء العريش ليكون مقراً لقيادة الجيش ولتسهيل حمايته صلى الله عليه وسلم. دعا له وأمر ببناء العريش والآن وقد توجهت المعركة وعلم أن المواجهة مع النفير ومع ذات الشوكة ومع الجيش اللجب العرمرم تبدو وتظهر الأسباب اللدنية وكأنها وفاء بعهد أو أداء لالتزام أو ثواب على حسن الطاعة والإنابة وصدق التوكل والتوجه بعد أن تبين ألا مناص من مواجهة ذات الشوكة وكان المسلمون في بداية الأمر يودون غير ذلك «وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ» كانوا يريدون العير.. لا جبناً ولا طمعاً.. ولكن الذي تبادر إليهم أول الأمر وتعلقت به قلوبهم هو العير فاحتاجوا إلى إعداد وتهيئة ليخرجوا من حالة ذهنية إلى حالة ذهنية أخرى.. فلما خرجوا كانت الأقوال مثل أقوال أبي بكر وعمر والمقداد ثم سعد بن معاذ.. لم يلتفت أحدهم إلى العير ولم يذكرها وسعد يقول: لكأنك تريدنا يا رسول الله، لقد صدقناك وآمنا بك وشهدنا أن ما جئت به الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصبر في الحرب صُدُق في اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينُك سر بنا على بركة الله. وقد وصف القرآن حالهم قبل ذلك فقال عنهم «يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ».ومع كل ذلك فقد جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وجعل يدعو «اللهم هذه قريش قد أقلبت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أمتهم الغداة» وفي سياق آخر كان يدعو «اللهم ان تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد» قالوا وقد انخرط النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء حتى سقط إزاره عن كتفه وأبو بكر قائم بجانبه يقول له: « بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك». وخفق رسول الله خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع وكانت هذه بداية التدخل بالأسباب اللدنية: قال تعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ويأتي دور النعاس في الأسباب اللدنية.. وذلك بعد ذكر نزول الملائكة.. «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ....». وعن ابن مسعود : والنعاس في الحرب من الله.. والنعاس في الصلاة من الشيطان وقال قتادة النعاس في الرأس.. والنوم في القلب. وقال علي رضي الله عنه: ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد.. ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهكذا حدث لهم في أحد حتى أن أبا طلحة قال إنه كان الرجل منا يغلبه النعاس حتى يسقط سيفه من يده ويأخذه ثم يسقط ثم يأخذه ... وجاء دور الماء في الأسباب اللدنية «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ...» فقد كانوا في بادئ الأمر قد غُلبوا على الماء فأصابهم العطش ولم يستطيعوا أن يغتسلوا من الجنابة فكانوا يصلون جنبًا هكذا أورده أبن كثير. «وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ...» أي يُذهب عنكم الوسوسة التي قد تنتابكم في هذا الظرف الذي يبدو فيه الباطل منتفشًا والحق منكمشًا فربما ساورت المؤمن الشكوك والظنون «وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ.....» أي بالصبر على ملاقاة العدو «وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ..» قالوا كانت الأرض التي نزل فيها جيش المسلمين دهسة أي هشة تغوص فيها قدم السائر.. وكانت الأرض التي نزل فيها المشركون طينية وكانت ثابتة ولما نزلت المطر تبدل الأمر.. فلين الماء الأرض تحت أقدام المسلمين فاستطاعوا السير بسهولة وابتلت الأرض تحت أقدام المشركين فصارت زلقة وأصبحوا يمشون في الوحل.. وهذا يشير إلى أن الأسباب اللدنية تعمل في معسكر الكفار كما تعمل في معسكر المسلمين.. ولكن بطريقة سالبة.. فالله سبحانه وتعالى يحرض المسلمين على الخروج وعلى ملاقاة العدو ويعدهم أحدى الطائفتين أنها لهم.. وفي ذات الوقت يظهر الشيطان في شكل زعيم عربي هو سراقة بن جعشم المدلجي فيبسط جواره على قريش ليطمئنوا أن أعداءهم من بني بكر بن مناة بن كنانة لن يغتنموا غرتهم ويهجموا عليهم وهم غيب في قتال المسلمين فقال الشيطان كما جاء في القرآن: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ» وجاءت الأسباب اللدنية بالخذلان والخسران على جيش الكفرة المشركين وأرسلوا عمر بن وهب الجمحي ليتحرّ لهم عدد المسلمين فلما عاد قال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون يا معشر قريش رأيت البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع... قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلى سيوفهم.. والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم فاذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فرُوا رأيكم» ففتّ ذلك في عضد المشركين.. وجاءت بادرة الأخنس بن شريق حليف بني زهرة تفت كذلك في عزائم القوم فقد انخنس بكل من جاء معهم من بني زهرة بعد أن نجّى الله لهم صاحبهم مخرمة بن نوفل وماله كما يقول الأخنس.. فلم يشهدها من بني زهرة أحد وكذلك لم يشهدها من بني عدي بن كعب أحد من المشركين ثم جاءت رؤيا جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب أبن عبد مناف لتزيد الأمر ضغثًا على ابّالة فقد قصّ أنه رأى رجلاً على فرس فأقبل ومعه بعير له ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وفلان وفلان قال أبو جهل لما سمع هذه الرؤية «وهذا نبي آخر من بني المطلب إشارة إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب قبل نجاة عير أبي سفيان.