عرفت الأخ الأكرم مكي علي بلايل عن قرب في خواتيم عام 1987م، وكان قد تخرج في جامعة الخرطوم كلية الاقتصاد قبل ذلك بسنوات ويعمل في مجال تخصصه، وكنا يومها بصحيفة «ألوان» الغراء في عهدها الذهبي: حسين خوجلي رئيساً للتحرير ومحمد عوض البارودي نائباً له ومحمد محجوب هارون مديراً للتحرير.. وفي زحمة العمل السياسي والدعوي كنا نلتقيه. وكان مكي بلايل وهو في شرخ الصبا آنذاك، قد بدأ مع زمرة من أصدقائه وإخوانه في الصدع بآراء جريئة ونقد واضح لتجربة الحركة الإسلامية وهم جزء أصيل منها، وجمعتنا به مجموعة صغيرة من الذين استهوتهم تلك الأفكار الأولى التي كانت شبه معدومة في ذلك الأوان، وتوج هذا الأمر بتأسيس مجلة سُميت «الكلمة»، رأس تحريرها آنئذٍ د. عبد الرحيم عمر محيي الدين، ومن مؤسسيها أمين بناني نيو ومكي علي بلايل وأخ اسمه عطا الله وياسر طاهر وأخ آخر هاجر في تلك الفترة واستقر في قبرص، وكنت متعاوناً معهم بعد الفراغ من عملي في صحيفة «ألوان»، وشغلت المجلة مكتباً صغيراً يتكون من غرفة واحدة بغير ملحقات، في عمارة الضرائب القديمة بشارع الحرية بالخرطوم بالطابق الثاني. وكان مكي علي بلايل مشغولاً بالإضافة لهموم السياسة والدعوة الإسلامية، بأفكار كبيرة تتعلق بالدولة وعملية العدالة الاجتماعية، وبطبعه بوصفه مثقفاً كبيراً وقارئاً لا يبارى ولا يجارى، تأسست لديه رؤية جامعة حول هذه القضايا التي تندرج في إطار الإصلاح الشامل لمسار العمل الإسلامي وتحدياته، والذين قرأوا بعد ذلك لمكي بلايل من أفكار ومقالات في الصحف السيارة، لم يتوفروا على أعمق وأروع مما كتب في تلك المجلة التي لم تعمر لأشهر محدودات، وكانت كل تجليات معرفته ونضارة أفكاره قد سكبها في تلك الأيام، حيث كان القلب والفؤاد والذهن غضاً فتياً وصافياً كودق السحاب. كان يأتي ويجلس في مكتب المجلة الصغير، ويدخل في نقاشات جادة وسجالات فكرية عميقة مع الموجودين، ويدفع بمقاله ويخرج في هدوء بلا جلبة كقمر مسافر بلا إياب. ومن تلك الفترة امتدت علاقتي به، وهو من أصدق الناس وأكثرهم تهذيباً وأنبلهم خلقاً وأوسعهم قلباً وأرقهم طبعاً، فقد كان وثيق الصلة بالله في كل حركاته وسكناته، لا يخشى في الحق لومة لائم، وكان مبدئياً حين يتخاذل الناس ويصيبهم الخور والضعف، قوي الإيمان بما يعتقد، شديد التواضع، والتواضع شيمة العلماء كما قال المكرم وجهه علي بن أبي طالب. فلم تفتنه الدنيا ولم تصب قلبه بسهمها الناري الحارق، وقنع منها بما هو فيه وتمسك بقناعاته، بالرغم من أن الدنيا وزيفها والسلطة وبهرجها كانت طوع بنانه تتراقص أمام عينيه.. لكن مكي ظل كما هو لم يتغير، ومن عرفه في صباه وخلال دراسته بالجامعة وبعد تخرجه ودخوله غمار الحياة العامة وتقلده أرفع المناصب الدستورية، يلاحظ أن ذلك لم يغير طباعه ولم يخصم من رصيده، ولم تستعبده الوظيفة والمواقع والمناصب، وظل في أعلى تلال أدبه الجم وسماحته الفسيحة وابتسامة الرضاء وقلبه المفتوح ويده المدودة للجميع.. لذلك كان في منطقة وسطى من كل الناس، لكنه يحمل مبادئ وقيماً وأفكاراً عليها يحيا ويموت ويخاصم ويوادد ويرضى. وفي الفترة الأخيرة وقبل أكثر من عام أصبح مكي هدفاً للحركة الشعبية وعملائها في جنوب كردفان، وكانوا يرون فيه عدوهم الأول، فحاولوا اغتياله أكثر من مرة وجندوا من يصفيه، لكن طاش سهمهم وخاب.. وكان له موقف هو الأسطع والأرفع من بين كل أبناء جنوب كردفان في مناهضة مشروع الحركة الشعبية في الجنوب والشمال، وكان ينتظر منه دور كبير في حل هذه القضية التي كانت تشغل كل باله ووقته وجهده، وتجاوز فيها كل ما يشعر به من مرارات، وتهيأ لبذل كل ما في وسعه لمعالجة أوضاع جنوب كردفان من خندق مواجهة فلول الحركة الشعبية التي استغلت كما كان يرى قضية جبال النوبة وأبناءها وصيرتهم حطب النار في حروبها، لكن يد المولى عزَّ وجلَّ كانت أرفق وأسرع إليه فقد أراده الله إلى جواره واختاره نقياً وصافياً بعد صيامه الشهر الفضيل فلاقى ربه بنية خالصة وصادقة وقلبه معمور بالإيمان والدعاء والصبر. غازي الصادق .. أي فتى في الجزيرة مثله؟ بحكم صلتي وارتباطي بالجزيرة أبا، تعرفت على الأخ غازي الصادق وزير الإرشاد والأوقاف بعيد تخرجه في إحدى الجامعات المصرية كلية الزراعة، في النصف الثاني من عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وقد كان شاباً ملتزماً بانتمائه الإنصاري بقوة وقناعة لا تتزحزح، من دون عصبية ولا انقياد أعمى، سمته ثابت، هادئ صموت قليل الكلام كثير التبسم نادر المجادلة إلا في ما يتعلق بالدين والأخلاق.. كنا في الجزيرة أبا في الأيام التي نلتقي فيها قبل الإنقاذ وبعدها بقليل، على طرفي نقاش جاد، هو بانتمائه لحزب الأمة المعارض ونحن بتأييدنا للإنقاذ، وكانت بيننا بصفتنا أبناء الجزيرة أبا حوارات معمقة حول مستقبل المنطقة وهمومها، ولربما موقفه المنحاز لأهله وعشيرته من الأنصار والظلم الذي حاق بالنيل الأبيض خاصة مناطقه الجنوبية تضافر مع أسباب أخرى وجعله يخرج مع إخوانه الذين خرجوا من الحزب في 2002م، واختار طريق التفاعل الإيجابي مع قضايا الوطن من خارج بيدر المعارضة القاحل. وأكثر ما يتميز به غازي الصادق، هو طيبة قلبه وجنانه وصدق وصفاء روحه وعفة لسانه وإخلاصه العجيب لما يؤمن به، فلم تبدل فيه الوزارات التي تقلدها في مدى أشهر قليلات شيئاً، كما هو متواضع لله، موطأ الأكناف، يحب الخير للجميع وينضح وجهه بالبشر، وكأنه كان على موعد مع الله، تجري على لسانه عبارات الحمد والشكر والدعاء في كل حين.. حتى استجاب له بارئه واختاره عند في مقعد صدق.. عبد الحي.. يا له من رحيل يحتبس البيان وتتقاصر قاماته ويتأبى المداد، حين أكتب عن الأخ الحبيب والصديق العزيز ورفيق العمر عبد الحي الربيع.. نشأنا معاً في مدينة نيالا في حي الوادي.. وكل مراحلنا الدراسية كانت معاً.. ما يقارب الأربعين عاماً، لم يتغير الطفل الذي يخرج من بيتهم الكبير الفسيح من حوش آل الربيع وهي أسرة قرآن وعلم وتقى وورع، حتى لحظة ملاقاته ربه ونفسه المطمئنة راضية مرضية. ولد عبد الحي في منزل الأسرة الكبير في حي الوادي في مدينة نيالا، على مقربة من حدائق وجنات الوادي الكبير، وأصوات القرآن تتعالى وتتصاعد من خلاوي جده لأمه الشيخ أحمد الطاهر الربيع ووالده الشيخ عبد الرحمن علي آدم إمام المسجد العتيق بنيالا وأحد أعلامها الدينية، وعاش عبد الحي في هذه البيئة القرآنية، ودخل مدرسة نيالاالشرقية الابتدائية مطلع السبعينيات وهو حافظ لكتاب الله، وتجاورنا في الفصل وكان معنا خاله عبد الله الربيع وابن خاله عبد السميع الربيع، ومنذ طفولته كان نابغاً محباً للمعرفة ومحباً للناس، وكانت له روح رقيقة كالنسيم المنساب على صفحة الماء الرقراق.. ودرسنا المرحلة المتوسطة معاً في نيالا الأميرية، وقد كان نجماً في الجمعيات الأدبية والمناشط الثقافية، وحين دخلنا الثانوي كان قد نضج واكتمل تميزه في مجال العمل الإعلامي والإذاعي، وسطع في الدورات المدرسية في المرحلة الثانوية، وفاز ونحن في نيالا الثانوية بجائزة السودان كله في الدورة المدرسية التاسعة على مستوى القطر في مجال الإلقاء النثري، وانفتحت له بجهده ومثابرته وحفره بأظافره على الصخر أبواب العمل الإذاعي بإذاعة أم درمان، وقبلها الإذاعات الولائية بداية بإذاعة نيالا وهو طالب بالثانوي، فسبق كل المذيعين والإعلاميين من دارفور الذين يملأون الساحة الآن، وعندما قدمنا للخرطوم معاً للدراسة الجامعية كان عبد الحي قد وضع أرجله على طريق طويل وشاق في الإذاعة، ومنها انطلق ولمع نجمه. ولا يجمع كل أهل نيالا وكل من عرفه من مناطق السودان الأخرى وأصدقاؤه وزملاؤه ومن عاشرهم داخل وخارج السودان، لا يجمعون إلا على شيء واحد هو «أن عبد الحي الربيع، ملاك بلا أجنحة»!! ولم يشاهده أحد إلا هاشاً باشاً راسماً الابتسامة على شفتيه، ونوقن جميعاً نحن أصدقاءه أنه لم يضر ولن يضر أبداً شخصاً أو مخلوقاً ما في حياته كلها، فقد كان طيب القلب، سامي الروح، شديد الوفاء، حيث نعرفه جميعاً أنه سباق لمواقع الخير ووفي لحد لا يوصف لكل من يعرف، خاصة أهله ومعلميه وأصدقاء والده وكل من له صلة بهم، ويجد حين يتثاقل الآخرون، ويغيب حين المغنم والمطمع، يعطي ولا تدري يمناه ما فعلت يمينه، ونعرف له أفضالاً وأعمال خير يسترها عن أقرب الناس إليه، فقد عاش للناس ولم يعش لنفسه، ولا يشعر بارتياح ورضاء إلا حين يقدم خيراً ويفعل معروفاً، وله صلات واسعة بأطياف مختلفة من البشر يتفانى من أجلهم جميعاً.. ولم أر من هو أبرَّ منه بأهله وخاصة والدته نورة المكلومة بفقده وإختيه زينب وسامية. كلنا كنا نشعر بأن عبد الحي ما عاش ليعيش، فقد كانت حياته كلمع البرق لم يشهد فيه استقراراً كاملاً ووهبها لعمله ووطنه، ولا تسمع ببعثة إعلامية في أية منطقة خطر إلا وكان في عمقها، وراكم تجارب لم تتوفر لإعلامي قط خلال العشرين سنة الماضية، وهو خبير بمناطق الحروب والنزاعات والتوترات الأمنية في البلاد، كما أنه علم في اللغة العربية وآدابها وفقهها وفنونها اللغوية. وقبيل رحيله وهو عند سلم الطائرة أرسل إليَّ رسالة على الهاتف «كل عام وأنت وعموم الأهل بألف خير .. نفتقدك كثيراً..» لكننا نحن الذين نفتقده اليوم كثيراً.. فقد ذهب ولم يعد، فقد كان على موعد ووعد أقوى وأصدق.. موعد مع فالق الحب النوى المحيي الحي القوي الجبار، فهنيئاً له جناته ربه العلا ومقعده عند مليك مقتدر.. عبد الحي حي لم يمت ..! ولا حول ولا قوة إلا بالله.