هذا المثل الإنجليزي لا يزال سائداً ومهيمناً على مفاصل الصحافة «Money talks and Sometimes Walkes» في عام «1939» إحدى الصحف الإخبارية الكبرى في العالم «شاتها توغا»، شمت العافية وظنت أنها حقيقة حرة وتملك إرادتها، فبدأت حينها تعارض مشروع الرئيس روزفلت، فما كان من الشركات الكهربائية الخاصة التي كانت تمدها بالإعلانات إلا أن قطعتها عنها.. فأفلست الصحيفة.. و«دقت الدلجة»، وما قامت ليها قايمة لي يوم الليلة!!.. انظر، منذ ذلك العصر، وهو تقريباً يقارب العصر الذي أطلق فيه المؤرخ الإنجليزي «توماس بابينحتون ماكولي» لقب السلطة الرابعة على الصحافة عام «1882» مشيراً إلى جمهور الصحفيين في مجلس العموم حينما أصبحت المنصة التي يجلس فيها المراسلون الصحفيون تشكل سلطة رقابة حتى على رقابة مجلس العموم واللوردات والشخصيات الرأس مالية الجعيصة التي تملك بخناق الرأي «بمالها». لكن الصحافة البريطانية منذ عصرها الذهبي ذاك كانت تعاني وهناً في رأي الصحفي وبالرغم من جهاد الصحافة الذي قامت بأمره خلال القرن التاسع عشر لتأمين ما تحتاج إليه من حرية لم يكن سوى عراك ضد السلطات العامة، يرمي للدفاع عن حرية الصحافة من تعديات الحكام.. وقد ظهر خطر آخر على الصحافة، منذ ذلك العصر جاء به أرباب المال الذين تتوفر لهم وحدهم خارج الحكومة والأحزاب القوية موارد جسيمة لا بد من توفرها لإنشاء وسائل إعلامية يرغب فيها. فصناعة الرأي أصبحت من أخطر الصناعات وأقواها وأكثرها أهمية تزداد كلما تقدم الزمن وبذلك أصبح أصحاب الجرائد حينها رجال أعمال تعيش وتزدهر من الإعلانات توزعها الشركات التجارية والصناعية الكبرى. وتقارير ودراسات تشير منذ ذلك العهد البعيد إلى أن الجريدة تكلف أكثر مما تدر على صاحبها!! فالجريدة التي تباع «بفلس» في إنجلترا في ذلك العهد لا تدر على الناشر سوى ثلي الفلس.. يعني كل نسخة تخسر ثلث قيمتها!!. هنا تكمن «حرية الصحافة» ولعل ذلك كان وما زال داءً قديماً، ولكن كيف كان أثره على الصحافة وحريتها، وكيف استطاعت بعض الصحف أن تتجاوزه أو تحتال عليه؟.. وإلى متى.. وكما يسأل البعض أليس من حل؟. تشير تلك الدراسات إلى أن تأثير تلك الفئات الضاغطة والإعلان يلحقان بعض الضعف على استقلال الصحيفة.. طيب كيف؟ تشير الدراسة إلى أن الاحتفاظ ببعض الأخبار أو التقليل منها أو تمييع صياغتها هو الذي يؤدي إلى الضعف في الاستقلالية!!. إذن تصبح عملية الصحافة «نَجِر» تماماً كما يفعل النجار.. في حالة سيطرة الإعلان عليها أو رأس المال وهي كغيرها من صناعات العصر تنزع للاحتكار تماماً كما يحدث في سلع السكر والخبز والوقود. كانت الديلي نيوز في نيويورك توزع مليونًا وربع المليون نسخة أي ما يوازي صحف نيويورك مجتمعة وفي عام «1930م» كانت عشر جرايد يومية بريطانية توزع تسعة ملايين نسخة.. كل تلك الصحف كانت لها تأثيرات حاسمة على الاتجاهات والتيارات السياسية لا سيما تلك التي ذات الطابع الإخباري وتشذ عن هذه القاعدة الصحف اليسارية المتطرفة والشيوعية. أما اليوم فإن الأمر يختلف تماماً عن عصر إمبراطورية الصحافة وعصرها العالمي الذهبي.. عصر الصحافة الورقية ذاك. ولكن هل يا ترى تأثر السودان والعالم العربي بشكل خاص بتلك الحقبة؟ والأسئلة المهمة: لماذا ماتت كثير من الصحف السودانية ولحقت «أمات طه؟!».. وما مصير الأخيرات ويبدو واضحاً والظروف هكذا ذلك المشهد الكاريكاتيري لصفوف بعض الواقفين في انتظار إصدار صحف جديدة!! والمشهد يبدو كالحكاية الطريفة التي تقول: إن عشرة أشخاص كانوا يسيرون في غابة في خط مستقيم، وصادف أن إحدى الأشجار «طبزت» عين الأول ففقأتها.. لكنه سكت، وتكرر الحدث للثاني والثالث إلا أن العاشر نطق بها!!. إذن فحقائق المشهد تشير إلى أننا نعاني مما أصاب صحافة القرون الأولى. وبنظرة فاحصة إلى أسعار الصحف السودانية منذ بدايتها يمكن أن نلقي الضوء على مدى تأثيرها. ومعلوم أن أول جريدة أخبارية رسمية أدخلها المستعمر هي الغازيتة السودانية «1898» وكان هدفها الرسمي هو التشريعات والقوانين.. إلخ. أما أول صحيفة فهي صحيفة السودان 2/2/1911 4 صفحات حجم كبير كان ثمنها قرش صاغ. حضارة السودان 31/12/1930 10 مليمات السودان الجديد 1/1/1952م 10 مليمات صحيفة الثورة 8/1/1964 10 مليمات الصحافة 17/4/1977م 12 صفحة 20 مليمًا ألوان 19/10/1984م 8 صفحات 25 مليمًا الشماشة 30/6/1986م 8 صفحات 50 قرشًا السوداني 28/1/1987م 8 صفحات 50 قرشًا السياسة 29/1/1987 12 صفحة 50 قرشًا الإنقاذ الوطني 17/9/1989م 8 صفحات «جنيهان» لاحظ عزيزي القارئ أن فئة «الجنيه» بدأت تفرض سيطرتها عقب 1989 وماتت الفئات الأقل منذ عصر المليم والقرش. بل إن تلك الفئات في ذلك الزمان كانت لها قيمتها وما يوازيها.. وإن خلت معظم تلك الصحف من كثرة الإعلانات.. يعني أنها لم تكن تجارة رابحة ولم تصمد مدة طويلة إلا الصحف الحكومية التي كانت الإعلانات الحكومية والدعم يأتيها طوعاً أو كرهاً. لكن الناس في ذلك الزمان كانوا يسخرون من صحيفة كان حجمها كبيراً وسعرها زهيداً.. فهي صحيفة حكومية هي صحيفة الثورة إبان حكم عبود يطلقون عليها «البرش بي قرش». بالرغم من ذلك تمثل صحيفة الثورة اليوم وثيقة تاريخية.. وكان بالصحيفة حراك ثقافي واجتماعي كما أنها كان قد عمل بها كبار الصحفيين. يقال إن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عيَّن أحد الثقاة وقال له: «إذا رأيتني ضللت الطريق فهزني هزاً عنيفاً وقل لي يا عمر اتقي الله فإنك قد ضللت الطريق». هذا الدور الرقابي الذي يكون من صميم مهام الصحافة هو في المقام الأول مسؤولية الحاكم بدونه لن تكون هناك صحافة.. وللموضوع بقية شائقة.. فهل للصحافة ثمن حتى يقف حيال نهضتها المال أياً كان قدره؟ نواصل..