لم يتأذ السودان من مسؤول ليبي في طغمة وزبانية القذافي، مثلما تأذى من عبد الله السنوسي مدير استخباراته وعديله الذي سلمته موريتانيا أمس إلى طرابلس. فقد كان السنوسي هو رأس الفتنة التي نشبت في دارفور، وصانع الحركات المتمردة وداعمها الأكبر، فقد حاك كل المؤامرات على السودان واستهدف أمن هذه البلاد واستقرارها، وظلت أياديه ملطخة بدماء السودانيين وغيرهم منذ التحاقه في السبعينيات بالدائرة المقربة من القذافي، مترقياً في المواقع والأدوار العسكرية والاستخبارية، منفذاً لتعليماته، وحاشراً أنفه في كل قضايا القارة الإفريقية وبلدان العالم الثالث وصراعاتها والإرهاب الدولي. والسنوسي فتح المعسكرات لحركات دارفور المسلحة لتدريبها وتأهيلها وأمدها بالسلاح والمال، وكان مشرفاً عليها، ومنحها كل التسهيلات، ونسق لها مع العديد من البلدان المعادية للسودان في الإقليم، فهو من يعطي الأوامر ويخطط للعمليات ويحرض على الهجمات، خاصة هجوم حركة العدل والمساواة على أم درمان في العاشر من مايو 2008م. واستمد السنوسي كراهيته للسودان من سيده، وكانت لديه عقدة قديمة أسقطها على السودان والسودانيين، وارتبط بالدعم الغريب والمستهجن من مال وسلاح ودعومات لوجستية قدمها القذافي لحركة قرنق عندما تكونت في 23مايو 1983م، والأغرب أن السيد الصادق المهدي الذي كان معارضاً لحكومة جعفر نميري آنذاك، هو الذي قدم قرنق للقذافي!! ولم يكن السنوسي بدمويته وفظاظة طبعه إلاّ نسخة ركيكة من جنون عرابه الأكبر معمر القذافي، فقد ولغ في دماء الليبيين، وأنشب مخالبه في دول الجوار الليبي، وتطايرت شروره لتعم مناطق عديدة في العالم، لكن الأذى الذي أصاب السودان منه، كان هو الأكبر، خاصة في السنوات العشرين الأخيرة من عمر نظام القذافي. وبتسليمه أمس إلى الحكومة الليبية، يكون آخر فصل من حقبة القذافي قد أُسدل عليه الستار، فلم يعد هناك رمز من رموز ذلك النظام أهم وأخطر منه، فهو خزينة وكنز معلومات لحقبة القذافي، ولم يكن مجرد مسؤول كبير فقط، فهو عديل القذافي وكاتم أسراره والمتحكم في مجريات الأمور كلها في ليبيا خلال العقدين الماضيين، بحكم قربه من عقيد ليبيا وإمساكه بخيوط اللعبة السلطوية، وإشرافه المباشر على صعود وهبوط كل القيادات الليبية التي عملت مع القذافي، وتحريكه للدمى السلطوية، وصناعته وإشرافه الشخصي على تأهيل ودخول أبناء القذافي دائرة إدارة الدولة وتوجيه دفتها. وصورة السنوسي وهو يُسلم إلى الحكومة الليبية بالأمس، فيها عبرة وعظة كبيرتان، فقد ذهب عنه بريق السلطة، وأطلق لحية كثة غيرت ملامحه، وفي عينيه رعب مخيف هو رعب كل القتلة والمجرمين في ساعات ضعفهم وخورهم وخوفهم وانهيارهم، سقط النظام وتبخر في الهواء ومات القذافي ميتة شنيعة، وقُبض من قُبض من أركان الحكم الظالم، وها هو السنوسي يُقتاد إلى مصيره المحتوم، حيث سيمثل أمام محاكمة ستكون تاريخية على كل جرائمه والمستبشع من الفظائع التي ارتكبها في بلاده، وضد البلدان الأخرى ومنها السودان. وقبيل هروبه إلى غرب إفريقيا مروراً ببعض الدول في جوار ليبيا الجنوبي، شاعت أنباء عن مساعدة استخبارية سودانية قادت لتحديد مكانه في الجنوب الليبي قبيل هروبه خارج ليبيا. والعبرة أن مثل هؤلاء القتلة، لا يمكن أن يفروا بجرائمهم، ودعوات المظلومين وأنّات وصراخ ضحاياهم تطاردهم أينما ذهبوا، لقد ضاقت على السنوسي وأمثاله الأرض بما رحُبت، فلم يجد مكاناً يقبله ويأويه، مثلما لم يجد القذافي نفسه، نهاية مشرفة ولا قبراً يضمه مكرماً يُحظى بتقدير واحترام. ومن عجائب ودلائل قدرة الله ومكره، أنه قبل أكثر من ثلاثين سنة، تحدث الشيخ والخطيب المصري الضرير عبد الحميد كشك معلقاً على عرض قدمه القذافي للحكومة المصرية آنذاك بشراء رفات وقبر جمال عبد الناصر لينقله إلى ليبيا، ويقيم له مزاراً هناك. وقال عنه القذافي «مزار يزار مثل قبر النبي محمد في المدينة».. فوجه إليه كشك حديثاً مباشراً صدقه الله فيه وأنجز له ما توقعه في القذافي. قال له في خطبة مشهورة: «يا قذافي أخشى أن تموت ميتة ولا تجد قبراً يحتويك ولا مزاراً يعرف لك، وسيفنى جسدك في التراب المجهول ويأكل لحمك الدود ولا يعرف أحد مكانك»!! «يا سبحان الله»!!