٭ حسناً، خضنا تجارب، وتعاملنا مختلف أنواع التعاملات، منها الذى طبع بالتسامح والتنازل، ومنها الذى اتسم بعزة النفس، وثبات المواقف، ومن ثم أصبح التمييز بين كل أنماط المناهج على وضوح كانبلاج الفجر، وإشراق الشمس، ولا ينكر الضوء الساطع إلا من به رمد، كما لا يتذوق طعم الماء الزلال إلا ذاك الذى يعاني وضربه السقم فأفقده حاسة الإمتاع، ولم يعد يشعر بلذة مأكل أو مشربٍ كما هى عادة الأصحاء. ٭ وبناءً على السياق المبني على طبائع الأشياء، ومنطق الاستقامة، والفطرة السليمة، فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ويكفى أننا عندما أعددنا عدتنا للدفاع عن أرض أجدادنا، وقدمنا فى سبيل ذلك الرخيص والغالى، والنفس والنفيس، لم يجرؤ أحد على ابتعاث بعثة لبلادنا مدججة بالسلاح، ولم يهم حتى مجلس الأمن لإصدار قرارٍ يحذرنا فيه من الاستمرار فى المجاهدات، أو العمل على إيقاف حركة الاستشهاد. ٭ ذلك لأن من يبذل نفسه وروحه من أجل قدسية يؤمن بها، فإن الإنس والجن إن اجتمعوا سوف لن يكون بمقدورهم منع الشهيد من أن يستشهد، أو المجاهد ليجاهد، مادام الأمر متصلاً بعقيدة راسخة وإرادة غلابة، ويومها إن أمروا بألف سبب الى السماء وقطعوا، فإن كيدهم لن يذهب ما يغيظ. ٭ وتلك تجربة وسيرة عطرة، عرفنا القيمة الحقيقية لنتائجها، ووقفنا على عظيم آثارها، ولم نلتفت ساعتها الى قومٍ يرفلون فى الرفاهية، أو مجتمع دولى ينظر إلينا بعين الخيانة والتآمر، وبحق كنا فى نعمة يشيع رحيقها، وسعادة غامرة، لم يفكر أعداؤنا حسداً منهم إلا أن يجالدونا بالسيوف ليحرمونا إياها. ٭ والفرق شاسع بين تلك الحالة التى كنا عليها من السعادة، والحالة الآنية التى تنذر بالشقاء جراء التكالب علينا بصناعة الأزمات، وتتالى التحذيرات، وسيل المنظمات والاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان وتجريمنا بالعمل ضد الإنسان بممارسة التطهير العرقى، والتفرقة الدينية والإبادة الجماعية. ٭ وعلينا أن نعمق النظر، ونستفيد من نتائج الدروس، حيث كان الدرس فى البدء صعباً، غير أننا عوَّلنا على أنفسنا وقتها لنستوعبه، ونتعرف على خفاياه، وتعقيدات منهجه، فكان النجاح الذى أحرزناه بدرجة تفوق العلامات الكاملة، أما الدرس الثانى، فإننا لم نعر لنتائجه اهتماماً، ذلك لأننا تساهلنا وسمحنا لأنفسنا بتجاوز الأسئلة الصعبة، وعهدنا لآخرين الإنابة عنا فى الإجابة عليها، ونحن بهذه الممارسة كان الرسوب من نصيبنا ٭ ومن آثار رسوبنا، ما أغرى ما يسمى المجتمع الدولى لتشديد الحصار علينا بالقرارات الجائرة. ٭ ومن آثاره أيضاً، ما جعل بلادنا قبلة لأصحاب الأجندة والأغراض الخبيثة ليجتاحوا الديار بحجة تقديم الإعانات والإغاثات، وهى سمومُُ نفثوها فأصبح جسمنا عليلاً، وإرادتنا مشلولة، ولم نعد قادرين على مغالبة ما يوجه إلى صدورنا من خناجر حادة يتولى استخدامها طابور خامس، ينطق بمثل ما ننطق، ويتحدث بمثل ما نتحدث ويحمل فى بعض الأحيان ذات البطاقات الصادرة مما ننتسب إليه من كيانات سياسية وأحزاب. ٭ والأثر الأبشع لنهج التسامح والتنازل واعتماد أسلوب الترضيات، أفقدنا ما كان فى حرزنا، وتحت الذي هو لنا ملك بحكم التاريخ ووثائق التسجيل، ويكفى أن أراضي شاسعة تملكها رعاة النيل الأبيض فى مناطق أعالى النيل، قد نزحوا منها بعد أن بصمنا على اتفاقية السلام الشامل على الحد الفاصل بين الجنوب والشمال بأن يكون هو الترسيم بين مناطق السودان الذي اضطلع به المستعمر، دون الوضع في الاعتبار أن السودان لم يكن حكراً على قبيلة، ولم نعرف يوماً حدوداً بين قبيلة وقبيلة، وكان الراعي يسرح بغنمه جنوباً وشمالاً، والذئب على غنمه فلا يخشى إلا الله. ٭ فجوبا كانت تحت السيطرة، وملكال، وكذلك واو، وكادوقلي، وتلودي، وغيرها كثير، ولم يكن التمرد في ذلك الوقت الصعب قادراً على السيطرة، أو الدخول الى مناطق هى الآن قد آلت إليه، ثم سال لعابه الى أخرى، بعد أن جاس خلال الديار، العميل والأجنبي والصهيوني، فكانت فرصة ذهبية تلك التى أتحناها، ليختلط حابلنا بنابلنا، ويا ليتنا نتعلم الدرس، ويهبنا الله القدرة على التمييز بين الطيب والخبيث، فتعود الإرادة غلابة كما كانت، والإيمان قوياً مواراً بمثل ذلك الذي سعد به الشهداء.