أبرزت الصحف العربية قرار تعيين مذيعة محجبة لتقرأ الأخبار في التليفزيون المصري واعتبرته خبرًا مهمًا، حتى إن صحيفة الشرق الأوسط نشرته على أربعة أعمدة في قلب صفحتها الأولى «يوم الإثنين 3/9».أفهم أن القرار كان حدثًا استوقف كثيرين. إذ استُقبل بالحفاوة من البعض والدهشة والامتعاض من آخرين، والحيرة من جانب فريق ثالث.. ذلك أن ظهور محجبة في التليفزيون المصري ظل من المحرَّمات منذ نشأ التليفزيون قبل نصف قرن.. وظلت البرامج الدينية هي الوحيدة التي استُثنيت من القرار على مضض، تشهد بذلك السيدة كاريمان حمزة التي عانت الأمرّين بسبب حجابها وسجَّلت ذلك في كتابها «لله يا زمري». وهناك أخريات أدركن أن التزامهن بالحجاب يعني على الفور اختفاءهن من الشاشة، وتحويلهن إلى مذيعات من الدرجة الثانية، يُحرم عليهن دخول استوديوهات البث.. والحظر الحاصل في التليفزيون تكرر في مواقع أخرى مثل مصلحة الاستعلامات ووزارة السياحة وشركة مصر للطيران، الأمر الذي شجع بعض أصحاب المطاعم والمقاهي على منع دخول المحجبات في محالهم. وقيل لي إن زوجات الدبلوماسيين المصريين المحجبات كن يُعتبرن خصمًا من رصيدهم يؤثر على فرصهم في الترقي وعلى العواصم التي يوفدون إليها.. من ناحية أخرى، فالعاملون بالوسط الصحفي يعرفون جيدًا أن المحجَّبات لم يكن مرحَّبًا بهن في القصر الجمهوري إبان عهد الرئيس السابق، لأن «الهانم» كانت تمتعض من وجودهن، ويتداول البعض حكايات كثيرة عن ضغوط مارستها قرينة الرئيس السابق لإقناع أخريات من زوجات المسؤولين بخلع حجابهن. عقب صدور قرار وزير الإعلام سابق الذكر تلقيت اتصالات هاتفية عديدة سألني أصحابُها عن رأيي في الموضوع، فكان ردي في كل مرة أن القرار بمثابة خطوة باتجاه تطبيع العلاقات بين السلطة والمجتمع. إذ فلم يكن غريبًا أن تظهر مذيعة محجَّبة على شاشة التليفزيون، ولكن الذي كان غريبًا حقًا أن يتطور المجتمع وتزداد فيه مظاهر التدين. بحيث يصبح للحجاب حضوره القوي في جميع أنحاء مصر والأغلبية الساحقة من مؤسساتها ومرافقها، ثم لا نجد صدى لذلك في التليفزيون طوال أكثر من نصف قرن، حتى بدا منفصلاً تمامًا عن واقع المجتمع وواجهة لبلد آخر غير مصر. أما الأشد غرابة من ذلك فأن يتصور البعض أن مصر المزوَّرة «المخاصمة لمظاهر التدين» التي تظهر على شاشات التليفزيون هي مصر الحقيقية، وأن حظر ظهور المحجبات هو الأصل، الأمر الذي دعا هؤلاء إلى الامتعاض حين فوجئوا بأن محجّبة انضمت إلى أسرة التليفزيون الرسمي، وأنها ستظهر على شاشته قارئة لنشرة الأخبار. ليس الأمر مقصورًا على التليفزيون. ذلك أن ثمة شريحة بين المثقفين والسياسيين أوهمت نفسها بالفكرة الأخيرة، واعتبرت ظهور الحالة الإسلامية في الساحة السياسية المصرية بعد الثورة مفاجأة لم يتوقعوها. وتجاهل هؤلاء حقيقة أن ذلك الظهور حدث لأن الانتخابات تمت بحرية ونزاهة، وأن احتكار عناصر الشريحة المذكورة للصدارات في السابق لم يكن سببه أن لهم تأييدًا شعبيًا يُذكر، ولكن لأن نتائج الانتخابات كانت تزوَّر لصالحهم. بمضي الوقت استعبط إخواننا هؤلاء وصدقوا أنهم وحدهم يمثلون المجتمع وأن غيرهم لم يعد له وجود أو دور. لذلك فإنني أفهم مبررات شعورهم بالمفاجأة والاستياء مما أفرزته أجواء ما بعد الثورة. حين أثار هذا الموضوع معي بعض الصحفيين الأجانب الذين توافدوا على القاهرة بعد الثورة، قلت إنني قد أستغرب ظهور ممثلي التيار الإسلامي في بلد بوذي أو في الفاتيكان مثلاً. لكني لا أجد غرابة في أن يحدث ذلك في بلد مسلم ومجتمع محافظ. واعتبرت أن السؤال في هذه النقطة هو الذي يثير الدهشة ويبعث على الاستنكار. في حين أن السؤال الصحيح هو ما إذا كانت المذيعة تتمتع بالكفاءة التي تمكِّنها من القيام بمهمتها أم لا. الاستهجان لا يقتصر على الذين استنكروا السماح لمذيعة محجبة بقراءة نشرة الأخبار في التليفزيون الرسمي، لكنه ينسحب أيضًا على بعض الذين بالغوا في الحفاوة بالقرار الذي أعتبره إيجابيًا بكل المعايير. حتى نقل على لسان أحدهم قوله إنه حين علم بالأمر تأكد من أن الإسلام دخل فعلاً إلى مصر. وهو تعليق ينطبق عليه قول من قال إن صاحبنا جاء يكحلها فأعماها. ذلك أنه أعطى انطباعًا بأن ظهور المذيعة المحجبة بمثابة علامة فارقة في انتقال مصر من الجاهلية إلى الإسلام. في حين أن القرار يصوِّب موقفًا إداريًا وسياسيًا مغلوطًا. وحين أراد أن يمتدحه فإنه انزلق إلى هجاء المجتمع والحط من شأنه، وتجاهل أن الإسلام موجود وراسخ القدم في مصر قبل تعيين السيدة المحجبة وقبل ظهور حزب الحرية والعدالة، وقبل أن يكون للإخوان وجود على أرض مصر. لقد ذاعت مقولة صاحبنا واستقبلتها بالاستنكار والسخرية التعليقات التي توالت على تويتر وفيس بوك، وأغلب الظن أن تلك الحملة كانت وراء مسارعة من نُسبت إليه المقولة إلى نفي صدورها عنه. وهو تصويب أرجو أن يكون صحيحًا.