جلست «الإنتباهة» إلى عدد من الناس الذين كانوا قريبين من الشيخ عبد القادر في السودان خاصة أثناء وجوده بقريتي الشكينيبة وود أبوآمنة. أجمع هؤلاء على أن الشيخ عبد القادر كان عالماً زاهدًا ورعاً لا يخشى في الله لومة لائم وكان معتزاً بانتمائه إلى أمة الاسلام وإلى الطريقة القادرية المكاشفية وبأبوة الشيخ عبد الباقي المكاشفي الذي أسلم على يديه، ونال طريق القوم. حين تستمع إلى أحاديث الأشخاص الذين التقتهم «الإنتباهة» في طريقها لكشف الجوانب المختلفة من حياة هذا الشيخ الجليل فكأنما تستمع لحديث أسطورة من الأساطير التي يرددها الناس عبر القرون فهو رجل شديد المراس قوي غيور على الإسلام وصاحب صوت قوي، دائم العبادة والتأمل. - استطلاع: فاطمة أحمد ذكري لي محدثي السيد/ عمر محمد علوم وهو الرجل الذي كلفه الشيخ النيل السيد المكاشفي خليفة الطريقة المكاشفية في منطقة ود أبوآمنة آنذاك بملازمة الشيخ عبد القادر أثناء وجوده في القرية وتلبية حاجاته فقد كان يقوم هو وزوجته قند اليمن عبد الله البخيت والتي كان يحلو للشيخ مناداتها ب«أم احمد» بلهجة مصرية محببة لسكان القرية، كان كما ذكر لي عمر أن الشيخ لم تكن طلباته كثيرة إذ تنحصر في غسل ملابسه وتحضير الشاي والقهوة «يُحضر البن معه من خارج السودان وأظنه يقصد النسكافيه» وتحضير الحليب في الصباح والمساء وكان يعتمد في غذائه في القرية على طعام محفوظ «معلبات» يُحضرها معه ويكتفي بالخبز والبيض من الطعام المحلي، كما ذكر أنه لم يرَ الشيخ يتناول «الكسرة» إلا مرة واحدة.. وأضاف عمر أن الشيخ كان يصلي بهم في زاوية الشيخ المكاشفي في القرية وهذه هي الزاوية التي أسسها الشيخ المكاشفي عند حضوره للقرية والآن موجودة يصلي فيها الناس إلى هذا اليوم وكان صلاة الشيخ عبد القادر يطيل القيام والسجود والركوع وينتقد صلاتهم الخفيفة ويقول لهم: لماذ تصلون بهذه الطريقة فأنا أصلي مثل أبوي «يقصد الشيخ المكاشفي» ومن الطرائف التي حكاها لي عمر محمد علوم أن أحد تجار القرية ويدعى «ود البشرى» وكان دكانه قريبًا من الزاوية بدأ صلاة المغرب مع الشيخ عبد القادر وعندما أطال الشيخ السجود خرج من صف الصلاة وأكمل صلاته منفردًا ورجع لدكانه لممارسة البيع. وعن شخصية الخواجة ذكر عمر محمد علوم أن الشيخ عبد القادر كان في معظم أوقاته صامتاً قليل الحديث ومرتبًا في أموره كلها ودقيقًا في مواعيده وفي حديثه حنونًا شفوقًا على الأطفال والمساكين وكان يُحضر للأطفال الحلوى ويقبِّلهم عند حضوره من السفر ويعرفهم فردًا فردًا ويسأل عنهم ويداعبهم كان يجلس لأهل القرية يتبادل معهم الحديث بلغة عربية سليمة ويسأل عن أحوالهم ويتفقدهم وأحيانًا يمارس رياضة المشي ويذهب للدكاكين ويسأل عن بعض الأطعمة فيجيبه صاحب الدكان والله يا الشيخ لم نسمع بهذا الاسم إلا على لسانك الآن، وقد سأل ذات مرة صاحب دكان عن الكريز والجبنة الرومية وغيرها من الأطعمة فوقف صاحب الدكان مشدوهًا لأنه لا يعلم ماذا يريد الشيخ، وكان الشيخ في مدة وجوده في ود أبو آمنة يلبس الجلابية السودانية والطاقية ويلبس شال الصوفية الذي يتميز باللون الأخضر وكان لديه راديو لا يفارقه أبدًا ويحمل عصا ويقول أنا أحمل العصا لأنها من سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك كان الشيخ عبد القادر غيورًا على دينه وكان يرفض أن يحييه أحد بعبارة صباح الخير أو كيف حالك ويقول: نحن مسلمون تحيتنا هي تحية الإسلام وكان يقول لمن يحضروا معه الصلوات في الزاوية المؤمن «لازم يكون قوي» ويصحح لسكان القرية إطلاقهم اسم الحكيم على طبيب القرية قائلاً: إن الحكيم اسم من أسماء الله تعالى وهذا اسمه دكتور، كان حين يصلي على النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم يصلي بصوت مرتفع يسمعه كل من يمر أمام خلوته. وكان له حسب عمر محمد علوم عدد كبير من الكتب وكان لديه مصحف باللغة الإنجليزية لا يفارقه «ولم يتسنَّ لي التأكد من اللغة المكتوبة بها المصحف هي الإنجليزية أم لغته الألمانية لأن محدثي لا يعرف سوى العربية». وذكر لي أن الشيخ يدخل خلوته بعد صلاة العشاء ولا يخرج منها إلا بعض صلاة الضحى حيث يمضي طول الليل في العبادة وينام في وقت القيلولة. كان لا يتحدث كثيرًا عن حياته السابقة ولكنه كان يتمنى أن يدخل ابنه وبنته الإسلام مثله. وذكر لي متحدث آخر هو الشيخ عبد الباقي الشيخ عبد الله المكاشفي ابن الخليفة الثاني في الطريقة المكاشفية أن الشيخ عبد القادر كان دائم المراسلة مع الشيخ عبد الباقي المكاشفي أثناء وجوده في مصر، وكان الشيخ المكاشفي يبدأ خطاباته إليه، ب«ابننا المكرم والصلاة والسلام على من اتبع الهدى»، ويختمها بعبارة «إلى الله المفر» وكان للشيخ عدد كبير من المريدين في مصر والسودان وأغلبهم من المستنيرين، وكان له مسجد في إدفو في جمهورية مصر العربية، وأضاف الشيخ عبد الباقي الذي كان يتحدث مع الشيخ في مختلف الأمور حين يكون في ضيافة والده بقرية الشكينيبة أنه كان ينتفض عضبًا حين يسمع في الراديو الحديث عن ألمانياالغربيةوالشرقية ويرد بغضب شديد ليس هنالك ألمانياشرقية أو غربية بل هنالك ألمانيا واحدة وستظل واحدة. الشيخ محمد الهارب السيد المكاشفي ذكر لي أنه رافق الشيخ عبد القادر في زيارة لعدد من المناطق في السودان وبالذات أضرحة الأولياء، فقد زار مقام الحاج عمر أحمد المكاشفي والد الشيخ عبد الباقي المكاشفي حيث الشيخ عبد القادر يناديه بجدي في جبال سقدي بولاية سنار حيث يوجد بهذه المنطقة عدد من مقابر مشايخ الطرق الصوفية الذين كانوا يتخذون من المنطقة مكانًا للسياحة «وهي رحلة للتفرغ للعبادة قد تمتد لنهاية العمر»، وزار كذلك منطقة «أم قرقور» حيث مقام العارف بالله الشيخ عبد الباقي النيَّل أحد أعلام التصوف في منطقة غرب الجزيرة، كما زار الشيخ مقام شيخ الطريقة السمانية الشيخ موسى أبوقصة ويوجد ضريحه بالقرب من ود أبو آمنة حيث إقامة الشيخ عبد القادر، وكان الشيخ متعلقًا بكل ما يتصل بأبيه الشيخ المكاشفي، وكان يحتفظ بطاقية الشيخ في حلِّه وترحاله وفي أحد الأيام وعند غسلها طارت في الهواء فخرج الناس يبحثون عنها وأعادوها إليه. هنالك الكثير من الحكم كان الشيخ ينثرها في حديثه وخطاباته منها أن المؤمن تقي نقي القلب، ومن أقواله كذلك أن رجل الطريق «لازم يكون صاحب قوة ظاهرة وباطنة»، زيَّنت حِكمُهُ أحد الخطابات التي أرسلها إلى مولانا موسى النيِّل المكاشفي باللغة الإنجليزية والتي حصلت على إحداها إذ خاطبه الشيخ ب«كن شجاعًا.. كن حكيمًا، كن كبيرًا ونزيهًا وفي كل الأمور كن صبورًا.. كل الأمور بيد الله.. لا تكن عنيداً مع الآخرين ولا تتهم الناس بالباطل وخذ من مالك وأعطِ الفقراء وبفضل الكريم العظيم يمكنك أن تواجه كل الصعاب والمغريات.. انظر إلى كل النجوم في سمائك وليس بالضرورة أن تدرس علم السحب.. واعلم أن خياطة فتق الثوب توفر تسع مرات... ليس هنالك أمر بيد البشر».. للشيخ عبد القادر كرامات كثيرة يتداولها أهل المنطقة وأكبر كرامة له علمه بوفاته إذ أنه حضر إلى القرية قبل ليلة من وفاته، وقد قال لي عمر محمد علوم إن الشيخ أتى في ذاك اليوم من الشكينيبة قادمًا إليها من مدني في عودته من مصر وأغلق باب الخلوة التي يتعبَّد فيها وطلب مني أن أُحضر أدوات حفر وبسرية تامة لا يعلم أحد بذلك غيري وغيره، وقد فعلت فأخرج مترًا ورسم قياسات دقيقة في أرض الغرفة وأمرني بحفر متر طولي وعرضي وقد تعبت من الحفر وتمنيت أن يترك الشيخ إكمال العمل إلى اليوم التالي خاصةً أن الليل قد بدأ يتسلل إلى القرية ولكنه كلما يشاهدني أوقفت الحفر يملأ لي كوبًا من عصير التمر هندي وقد كان مشروبه المفضل ويقول لي: احفر يا عمر، وبعد أن أكملت الحفر قال لي يا عمر أنا لن أنساك أبدًا وسلم لي علي أم احمد «يقصد زوجته قند اليمن»، وقد تركته بعد أن أحضرت له اللبن وفي الصباح لا أحضر له الشاي إلا بعد أن يصلي الضحى فأحضرت الشاي حوالى الساعة الثامنة والنصف صباحاً كالمعتاد، وطرقت الباب طرقات خفيفة، وحين لم أسمع إجابة طرقت طرقات قوية، فساورني الشك لأن الشيخ يرد ب«مين» حين يسمع أول طرق على بابه فذهبت إلى الشيخ النيّل السيد المكاشفي وأخبرته أن الشيخ لا يرد عليَّ فقمنا بدفع الباب بقوة فوجدنا الشيخ مسجى على فراشه ومسبحته بجانبه وقد جرد عددًا كبيرًا منها وهي مسبحة ألفية «لالوبة كما يسميها القوم»، ووجهه للقبلة وكأنه نائم، وقد كان ظهر الشيخ منحنيًا لكبر سنه فوجدناه قد تمدَّد وظهره مفرود في الفراش، فأرسل خالي أحد أبنائه «قسم الله عدلان» إلى الشكينيبة لإخطار الخليفة عبد الله المكاشفي لإخباره بوفاة الشيخ عبد القادر وقد قمنا بحفر قبر في مقابر القرية للشيخ فأمر الشيخ الخليفة عبد الله المكاشفي «ود العجوز» بتعديل الحفرة التي حفرها إلى قبر ودفنه في غرفته التي كان يتعبد فيها وقد بكته المنطقة بأكملها وحزنت عليه لأنه ابن أبيهم الشيخ المكاشفي وريحانة مجالسهم، وقبره اليوم مزار للمريدين من مختلف المناطق للتبرك ويقوم على مقامه الآن حفيد الشيخ المكاشفي في منطقة ود أبو آمنة السيد الشيخ النيل السيد المكاشفي. وبعد وفاته وفي التسعينيات حضر ابنا بنته وأحدهم يدعى رونيو جاء للسودان لعمل بحوث بجامعة الجزيزة وزارا قرية ود أبو آمنة وأخذا عددًا من الصور لمقبرته.